يبدو أن البلد تناول حبة مهدئ أعصاب من عيار ثقيل. منذ انتخاب الرئيس ميشال عون تبدّل المزاج العام جذرياً. فجأة خفّت شكاوى الناس. وتراجعت زحمة الأعياد بإجراء بسيط لمفارز السير. وعادت الحجوزات لترتفع في الفنادق والمطاعم (وصلت إلى حدود 80 بالمئة في بعض المناطق). صرنا نرى متسوقين بأكياس منفوخة وابتسامات عريضة، وتكشيرات أقل.

إنقلاب كامل ليس في الشكل فحسب بل في المضمون. خلال الأيام الثلاثين الماضية التي تلت الانتخابات الرئاسية تعرض لبنان لاختبارات قاسية لو جاءت في ظروف أخرى لكانت شكلت خطراً حقيقيا على الاستقرار والسلم الأهلي. بداية مع توقف اندفاعة العهد لاصطدامها بعقبات تشكيل الحكومة العتيدة. العقبات بدأت مطبّات بالإمكان تجاوزها بتدوير بعض الزوايا الحكومية، بالوقوف عند خاطر المرجعيات "المشرشّة" في النظام. ثم ارتفعت المطبّات لتصبح متاريس تحمي الطائفة وتواجه الثنائيات التصالحية التشاركية، كانت مسيحية-مسيحية، أم مسيحية-اسلامية. ومن بعد تراجعت لتكون رسائل تحذير وإعادة تذكير بالاصطفافات والمواقع والأحجام، وربما نوع من فحص دم لتحديد الفئة الوطنية.

ومع ذلك استمر التواصل السياسي بين الفرقاء من دون تشنج أو تعبئة. وانحصر شدّ الحبال السياسي في إطار مقبول تحت مظلّة حوار لم يخرج عن الأصول، باستثناء بعض الاعتصامات المطلبيّة التي استخدمت الشارع ولكنها جاءت كصرخة في واد تردَّد صداها ومع ذلك بقيت صوتية لا أكثر.

وبعد مطبات التأليف واجه العهد مشكلة المعلنين أبوّته. "حزب الله" لا يقبل بأقل من أبوّة كاملة كذلك "القوات اللبنانية" وكذلك "تيار المستقبل". وبالطبع يعتبر "التيار الوطني الحر" أنه الأب والأم. هذا الخلاف مرشّح للاستمرار إلى ما بعد نهاية العهد، ويترك للمؤرخين والباحثين وما سيكشف من أوراق واتفاقات. إلا أن الكل يجمع على مثابرة الجنرال ومحورية دوره.

هذا النوع من الخلافات بنّاء، بل مفيد من الناحية الفكرية، كونها فرصة لإعادة التذكير بمفردات تجمع اللبنانيين، من ميثاقية وعيش مشترك. لكن المشكلة كادت أن تقع في تسييس الخلاف أكثر من اللازم عند محاولة بعض المتضررين من انهاء الفراغ الرئاسي حشر العهد في اصطفافات سياسية هو منزّه عنها، بحكم أنه عهد اللبنانيين كلهم وحامي سيادتهم ودستورهم. وهنا أثبت العهد أنه فوق الاصطفافات. فلنتخيّل مثلاً ما كان ليحصل بين الأطراف اللبنانية المختلفة لو زار بعبدا مهنئاً وقبل باقي المهنئين موفد سوري وموفد ​إيران​ي، لو لم يكن ميشال عون رئيساً. وما كان سيكون موقف الجهة المقابلة عند إعلان الرئيس أن زيارته الخارجية الأولى بعد تشكيل الحكومة ستكون للسعوديّة. ولنذهب أبعد من ذلك. من كان يتخيّل أن ينهي مفتي سوريا محمد بدر حسون مؤتمره الصحافي في بعبدا، ليقف من بعده على المنبر نفسه رئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع. هذا ولم يزر رئيس تيّار "المردة" النائب سليمان فرنجية، رمز "الممانعة"، القصر الجمهوري بعد.

هذه اللقاءات، وحال عدم الخلافات غير المعهودة، تؤشر برمزيتها إلى إنتقال لبنان من حال الوقوف على حافة الهاوية والخطر الداهم إلى حال من الاستقرار والهدوء وضبط الخلاف ضمن الأطر السياسيّة والدستوريّة، على الرغم من التهديدات الارهابية اليومية وانكشاف لبنان على الحرب على سوريا بصورة كبيرة. حال الاستقرار هذه، والقدرة على تحييد لبنان عن نيران الخارج، وضبط خلافات تياراته تحت سقف مقبول، تسجل نجاحاً للعهد وتأكيداً لشرعيّته ولبنانيّته خلافاً للعهود السابقة التي افتقدت الحدّ المفترض من الشرعيّة السياسيّة، على الرغم من أنها كانت دستوريّة وقانونيّة. شرعيّة تؤهلها لتكون حكماً بين اللبنانيين ومظلة تظلّل الجميع وتؤمّن استمرار عمل المؤسسات لا شلّها، وتفرض الحلول السلميّة للخلافات، لا تركها للشارع وزعرانه.

صحيح أن انطلاقة العهد الحكوميّة بطيئة، ومؤجّلة إلى ما بعد الانتخابات النيابيّة بحسب ما ينقل عن الرئيس عون، لكنها انطلاقة مختلفة، وراسخة الخطوات نحو الانتقال من نظام المحاصصة إلى نظام يحتكم إلى مؤسّساته ودستوره على ما فيها من خلل، وعلى أمل إصلاحها وتغييرها عبر ما يتمنّاه اللبنانيون جميعاً، أيّ قانون انتخابات عصري، تكون النسبيّة أساسه، ويقدر على إنتاج نظام جديد أكثر تمثيلاً وأكثر شرعية مثله مثل العهد الجديد.