من يتابع المواقف الأميركية حيال أزمات المنطقة والعالم يجد نفسه كأنه امام مجموعة دول او مجموعة حكومات ذات سياسات متعارضة، ما يطرح السؤال فعلا هل ​اميركا​ فقدت القيادة المركزية التي تضبط الأمور؟

ام ان التنازع بين منظومة ترامب ومنظومة الدولة العميقة أدى الى هذا التخبط والتناقض؟ ام ان هناك سياسة جديدة ابتدعتها اميركا للتعاطي مع الشؤون الدولية بهذه الطريقة الغريبة المتناقضة المواقف؟ نقول هذا ونحن نتابع المواقف الأميركية كالتالي:‏

أولا في العلاقة بإيران: ففي الوقت الذي هدد وأرعد ترامب بأنه سيلغي ​الاتفاق النووي​ الدولي مع ​ايران​ عاد وبلع لسانه، ثم جاءت مسألة ​اليمن​ وما ساقته اميركا من التهم التي لفقتها ​السعودية​ حول الصاروخ اليمني الذي أصاب الرياض وأثار الهلع في صفوف حكامها، وهنا كانت المواقف الأميركية التي فيها الكر والفر ، وفيها الهجوم والتهديد ثم التنفيس والتراجع ، فبعد التمثيلية السمجة التي لعبتها نيكي هيلي على مسرح مجلس الامن بوصفها مندوبة اميركا إليه، و قدمت دليلا مضحكا مثيرا للسخرية عن تورط ايران بتزويد ​الحوثيين​ بالصاروخ الذي اطلق، ودعت هي ومسؤولون اميركيون آخرون الى انشاء تحالف دولي ضد ايران لمواجهتها بشتى الطرق ، بعد كل هذا التصعيد الذي ظن العالم معه ان اميركا تحضر لغزو ايران واحتلالها! وعادت اميركا على لسان وزير دفاعها ماتيس وتراجعت معلنة ان «اميركا لن تواجه ايران عسكريا».. فماذا هي فاعلة اذن؟‏

نطرح السؤال لان كل ما يمكن لأميركا فعله ضد إيران فعلته الا الحرب العسكرية المباشرة، فاذا استبعدنا هذا الامر فما الجديد الذي تهدد به؟ الجواب لا شيء بل انه الاستعراض دوليا والاستسخاف ب​دول الخليج​ وعلى رأسها السعودية للمضي قدما في طريق التهور ودفع المال لأميركا بصفتها «المدافع والحامي» بوجه إيران «العدو المزعوم».‏

ثانيا السلوك حيال سورية: زعمت اميركا انها ترى في داعش خطرا على الامن القومي الأميركي والسلام العالمي، وادعت انها انشأت تحالفا دوليا لمحاربتها وجاءت بقوات عسكرية تنفيذا لمهمة مواجهة داعش. ولكن في الميدان كانت اميركا تمارس دور الراعي والموجه والحاضن لداعش، فكم من مرة دافعت عنها وزودتها بالسلاح والمؤن العسكرية وكم من مرة قدمت لها الاسناد الجوي من اجل تمكينها من احتلال منطقة او التغلغل في منطقة او الانسحاب للتفلت من حصار؟ وان دعم اميركا لداعش واحتضانها لها بات مسلمة يقينية عند كل المتابعين.. الموضوعان لا يجادل بهما إلا أحمق أو مأجور. وبعد ذلك عندما أعلنت ​روسيا​ التي جاءت بقواتها الى سورية بناء على طلب سوري شرعي للمساعدة في مواجهة داعش ، عندما أعلنت روسيا انها ستسحب قواتها لانها انجزت المهمة - يعني دفع خطر داعش عن سورية - ، انكرت اميركا هذه الحقيقة وادعت ان خطر داعش ما زال قائما وانها لن تقتدي بالسلوك الروسي في سحب القوات ولن تغلق قواعدها العسكرية التي أقيمت بصوره غير شرعية على الأرض السورية ، ثم تطور موقفها للقول بأنها تفصل بين وجود داعش ووجود قواعدها العسكرية في سورية و تربط وجود الأخيرة بالحل السياسي للازمة ، ثم كان سلوك جديد قديم عبرت عنه مشاهدات ميدانية وتسريبات دبلوماسية مفادها ان اميركا قررت العودة الى تدريب قوات محليه في الجنوب الشرقي السوري في محيط التنف من اجل اعداد القوى التي تواجه الجيش العربي السوري و تعوض خسارة داعش للحرب في مواجهته ، و تمنع سورية من اعلان الانتصار والتصرف بذهنية المنتصر في صياغة الحل السياسي او أقله عرقلة وتأخير الحل بما يشكل ضغطا او ابتزازا لمن يقودون العملية السياسية بشكل حقيقي وجاد وعلى رأسهم روسيا . فهل ستنجح اميركا في مسعاها؟‏

ان الذي يفهم بعمق قواعد السياسة الأميركية يدرك ان اميركا عندما تواجه بقوة وإرادة وصلابة تتراجع، وعندما تراعى ويكون تراخ امامها تستأسد وتهاجم وتطيح بكل قواعد القانون والاخلاق مهما كانت اهميتها، ونعطي على ذلك مثلين حاليين ما زلنا نعيشهما ونعيش تداعياتهما، الأول مع ​كوريا الشمالية​ والثانية في مسألة ​فلسطين​.‏

ففي كوريا الشمالية أرعدت اميركا وأزبدت وهددت بالويل والثبور وعظائم الأمور وبحرب ماحقة تزيل كوريا الشمالية من الوجود، فكان الرد الكوري الشمالي مزيداً من التحدي والبأس وإظهار القوة بشكل وجّه رسالة قاطعة لأميركا تقول لها «لن تخيفونا» وقد «أعددنا لكم ما يذهلكم» ان استوجب الامر. وهنا بدل ان تنفذ اميركا تهديدها فإنها تراجعت ولجأت الى «خصمها الدولي المنافس» روسيا طلبا للمساعدة في حل الازمة مع كوريا، وعرضت التفاوض دون أي قيد او شرط أي بمعنى آخر بلعت لسانها وكل ما أطلقته من تهديدات وانكفأت معترفة بالقوة الكورية الشمالية ومبدية الاستعداد للتعامل مع هذا الواقع.‏

اما في فلسطين ، لما شعرت او أبلغت من قبل دول عربية أساسية وعلى رأسها السعودية ان أحداً لن يحرك ساكنا في حال أعلنت ​القدس​ عاصمة ل​إسرائيل​ ، أقدمت اميركا على الإعلان و أطاحت برزمة من قرارات ​الأمم المتحدة​ منذ العام 1947 حتى اليوم ولم تراع أمنا او سلما او مصالح لآخرين ، لكنها عندما ووجهت بموقف حازم من جزء من العالم العربي والإسلامي ورفض أروبي عادت و بدأت المناورة والمراوغة حول الامر وادعى مسؤولون فيها ان الإعلان عام وبحاجة الى تحديد حدود القدس ونطاقها الجغرافي، ثم عادت لتتحدث عن «حائط المبكى» ووجوب ان يكون جزءا من إسرائيل وهو ذاته جدار البراق المشكل جزءا من ​المسجد الأقصى​، وهو عند المسلمين المكان الذي منه انطلق منه النبي محمد (ص) الى السماء في رحلة المعراج الى الله بعد ان أسري به على ظهر البراق من مكة الى القدس ، ما يعني انها تدخل إعلانها في منطقة رمادية وتتجه للنقاش عن موقع حائط البراق مستقبليا مع «موقف حاسم» منها مسبقا.‏

ان كل تلك الوقائع وهذه الأمثلة والشواهد تقود الى الاستنتاجات التالية:‏

- ان السلوك الأميركي في المنطقة والعالم غير خاضع لأخلاق او قانون، وتذكرنا اميركا بتصرفاتها عامة بما أطلق يوما في مجال الحكم الاستبدادي وعرف بقاعدة «ما أراده الحاكم هو القانون» أي لا قانون يعلو المشيئة الأميركية، فالمشيئة الأميركية هي القانون بذاته، ويتقلب القانون حسب تقلب المشيئة تلك ويتغير بتغير المشيئة الأميركية.‏

- ان المشيئة الأميركية ليست قدرا لا يرد، فاذا كانت تلك المشيئة تنضج على ضوء المصالح الأميركية وترعاها، فإن تعرض تلك المصالح للخطر من باب المواجهة يفرض تعديلا على تلك المشيئة لان الثابت في العقل الأميركي هو المصالح وليس المبادئ والقواعد التي لا قيمة لها في مواجهة المصالح، وعلى من يريد ان يكسر المشيئة الأميركية العدوانية ان يتوجه لتلك المصالح ويضعها في دائرة الخطر والتهديد وسيرى التراجع الأميركي سريعا.‏

- ان اميركا اليوم ليست بصدد الدخول في حرب جديدة مع أحد وليست بصدد فتح جبهات جديدة تزج فيها جيوشها وجيوش حلفائها، ولكنها ستبقى تهول بالحرب وتحشد قوى رديفة محلية تعمل بأمرتها من اجل ارهاق الآخرين وابتزازهم وإطالة أمد الصراعات التي تستثمر بها في العالم دون ان تضطر لدفع الاثمان الباهظة من جيشها او مالها.‏

- ان التناقض والتقلب في المواقف الأميركية حيال المواضيع الدولية ليس نتيجة الصراع بين منظومة ترامب ومنظومة الدولة الأمنية العميقة فحسب بل هو في هذه الفترة استراتيجية قائمة بذاتها يعمل بها من اجل تشتيت فكر الخصم ومنعه من التركيز على مسار معين للمواجهة.‏

على ضوء ذلك نرى ان السبيل الوحيد الناجع والمجدي لمواجهة اميركا في تصرفاتها الراهنة هو الاستراتيجية التي تعتمد القوة المرنة، على ان تكون في أقصى حدود القوة المهددة للمصالح الأميركية وان تكون في أفضل أشكال المرونة التي تحرم اميركا من الذرائع التي تجبرها للذهاب الى الحرب، بمعنى آخر اعتماد استراتيجية الردع الاستراتيجي المرن الذي يشعر اميركا بالقوة الفاعلة فيمنعها من العدوان، ويترك لها طرقاً بديلة للتراجع عن عدوان بدأته. وهنا نرى ان معالجة القواعد العسكرية الأميركية في سورية كما والوجود الأميركي كله في سورية ممكن جدا وغير مكلف كما يتصور البعض، وذلك باعتماد استراتيجية القوة المرنة، ونحن نثق بنتائج المواجهة انها ستكون لمصلحة سورية التي تملك الحق والقوة التي تحميه ومعها الحلفاء القادرون أيضا، ومن انتصر خلال السنوات السبع الماضية لن يتأخر عن تحقيق الانتصار في الأسابيع او الأشهر المقبلة، فالانتصار تحقق ويبقى تثبيته.‏