كشفت النقاشات التي جرت على مدى ثلاثة أسابيع في اللجنة المكلفة دراسة ​الموازنة​ العامة لعام 2018 أنه جرى خفض العجز في المشروع المقدم من الحكومة اللبنانية من 12 ألف مليار ليرة إلى 7260 مليار ليرة، أن الدين العام قد سجل ارتفاعا لاسيما الدين بالعملة الأجنبية والذي بات يتجاوز الـ 50 بالمائة من إجمالي الدين الذي تجاوزت أرقامه الرسمية الـ 86 مليار دولار فيما سجل ارتفاعا كبيرا في فوائد خدمة الدين في عام 2018 بقيمة 1114 مليار ليرة لتبلغ 8264 مليار ليرة.

هذا التطور الخطير في تنامي حجم الدين وخدمته جرى التغطية عليه من خلال عملية خداع تمثلت في إظهار خفض العجز في مشروع الموازنة بنسبة 20 في المائة وكأنه إنجاز كبير قد تحقق بينما هو في الواقع عكس ذلك تماما وذلك للأسباب التالية:

السبب الأول: أن ما قيل إنه خفض للنفقات في مشروع الموازنة لم يكن في الحقيقة سوى عملية تراجع عن زيادة النفقات التي أدرجت في مشروع موازنة عام 2018 وبالتالي جرى العودة إلى نفس الإنفاق الذي كان قائما بين عامي 2017 و2018، الأمر الذي كشفته نسبة العجز في الموازنة والتي ظلت عند مستواها السابق على الرغم من خفض النفقات 1650 مليار ليرة، في وقت ارتفعت فيه خدمة الدين أيضا.

السبب الثاني: إن الإقدام على مراجعة مشروع الموازنة والتخلي عن زيادة الإنفاق لم يكن بدافع التقشف والخوف من مخاطر الاستمرار في هذه السياسة المالية التي لا تأخذ بالاعتبار الآثار السلبية على الوضع المالي، وإنما كان بدافع الخوف من أن يؤدي رفع سقف الإنفاق وعدم التقشف إلى رفض الدول المانحة في مؤتمر باريس 4 على عدم الموافقة على منح لبنان قروض إضافية، بعد أن حذر رئيس الجمهورية من ذلك وطلب مراجعة مشروع الموازنة وخفض الإنفاق بنسبة 20 في المائة.

السبب الثالث: إن الحكومة توغل في اعتماد المزيد من سياسة الاستدانة لمواجهة استحقاقات خدمة الدين وتأمين الإنفاق غير التقشفي وكأن لبنان ليس عليه ديون وفوائد مرهقة وبحاجة إلى إعادة نظر جذرية في سياساته المالية والاقتصادية الريعية، ومثل هذا التوجه في سياسة الحكومة ظهر بوضوح من خلال اللهاث وراء عقد مؤتمر باريس 4 للحصول على مزيد من القروض بشروط المانحين وتظهير ذلك على أنه مكسب يحققه لبنان، في أكبر عملية تضليل وتزيين في الوقت نفسه للارتماء في أحضان التبعية المالية للدول المانحة وصناديقها لاسيما صندوق النقد الدولي الذي يستخدم سلاحا غربيا لفرض التبعية على الدول. وإخضاعها بداية لشروطها الصارمة بتكييف السياسات والسير في مزيد من خصخصة القطاعات الاقتصادية والخدماتية، ومن ثم فرض الإملاءات السياسية وصولا إلى إخضاع الدول للسياسات الغربية كشرط لاستمرار تقديم القروض وإعادة هيكلية الدين، وهذا طبعا ما يدخل الدول الدائنة في فخ الارتهان والتبعية.

إن أي خبير اقتصادي يدقق في مثل هذه السياسة المالية التي تسير فيها الحكومة يتبين له بوضوح أن لبنان يتجه نحو طريق مسدود ومظلم اقتصاديا وماليا واجتماعيا، فمثل هذه السياسة تقود إلى النتائج التالية:

النتيجة الأولى: الإيغال في انتهاج السياسات النيولبرالية الريعية التي همشت ودمرت القطاعات الإنتاجية، وهو طبعا ما يزيد من تحويل لبنان إلى بلد فاشل اقتصاديا وخاضع لوصاية الدول الدائنة على غرار ما حصل لمصر في عهد الخديوي إسماعيل في القرن الثامن عشر عندما اعتمد على سياسة الاستدانة وأغرق مصر بالديون وعجز عن السداد مما مكن الدول الدائنة، بريطانيا وفرنسا، من فرض وصايتها على المالية المصرية لتحصيل ديونها.

النتيجة الثانية: رهن ثروات لبنان النفطية للدول الدائنة والطامعة في هذه الثروات، التي لم يجر استخراجها بعد، ما يحرم لبنان من فرصة أن تشكل هذه الثروات فرصة للخروج من مستنقع المديونية وإعادة إنعاش الاقتصاد ووضع حد للعجز في الموازنة العامة.

النتيجة الثالثة: تفاقم حدة الأزمة الاجتماعية من خلال زيادة التفاوت الاجتماعي والفقر وأعداد العاطلين عن العمل، وتحميل المواطنين المزيد من الضرائب غير المباشر لمواجهة ارتفاع خدمة الدين والعجز المتنامي في الموازنة.

إن وضع حد لهذا المسار الخطير، الذي يتجه إليه لبنان، يستدعي إعادة نظر جذرية في السياسات الاقتصادية والمالية بما يضع حدا للسياسات النيولبرالية الريعية لمصلحة اعتماد سياسات اقتصادية تنموية ومالية ترشد الضريبة وتقوم على فرض الضرائب التصاعدية بدلاً من الضرائب العمياء التي تساوي بين أصحاب الثروات والفقراء.