شهد شاهد من أهلها: الرئيس السابق لغرفة البداية في ​المحكمة الدولية​ الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس ​رفيق الحريري​ وآخرين، القاضي روبرت روث، أسقط أخيراً القناع عنها بشكل مباشر وواضح وصريح: هي تخضع لـ«ثقافة الانصياع» لإملاءات سياسية. وقدّم القاضي السويسري دلائل تشير إلى أن بعض إجراءات هذه المحكمة تهدف إلى إدانة «​حزب الله​» لا إلى تحقيق العدالة. لكن يبدو أن كلّ ذلك لا يكفي لإقناع ​الدولة اللبنانية​ بوقف تمويلها وسحب القضاة أو على الأقل تقديم شكوى إلى مجلس الأمن والمطالبة بالتدقيق في عملها وفي ميزانيتها... علماً أن «المال السايب يعلّم الحرام».

في مطلع الشهر القادم (حزيران) سيقدّم الفرقاء في المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرون تصريحاتهم النهائية تمهيداً لصدور الحكم وإسدال الستارة. لكن مهلاً، لا بدّ من اجتماع أخير للجنة إدارة المحكمة في منتصف حزيران للتأكّد من سير الأمور كما تشتهي القوى الغربية في ​مجلس الأمن الدولي​. فمجلس الإدارة الذي يتألف من سياسيين وديبلوماسيين هو الذي يقرّ موازنة المحكمة ويشرف على تقدم عملها؛ وفي المقابل، يبدو أن القضاة ينصاعون لتوجيهاته، خصوصاً لجهة تحديد برنامج المحكمة الزمني. يرجّح ذلك خضوع المحكمة لأجندة سياسية غربية واضحة: الإسراع في إدانة حزب الله قضائياً من أجل استثمار ذلك سياسياً واجتماعياً في إطار الحملة الأميركية/ ال​إسرائيل​ية الهادفة للنيل منه.

الرئيس السابق لمحكمة البداية في المحكمة الخاصة بلبنان القاضي السويسري روبرت روث قد يكون الشاهد المثالي على تسييس المحكمة الدولية لا بسبب صدقيته أو نزاهته التي لم يخضع لامتحان بشأنها بسبب استقالته المبكرة (استقال في 10 أيلول 2013) بل بسبب موقعه القيادي المتقدم، حيث إن رئيس غرفة البداية هو الذي يحدّد، بمعاونة مستشاريه، مسار الجلسات والبرنامج الزمني لإجراءات المحاكمة والترخيص للفرقاء لاستئناف القرارات القضائية وهو الذي يتلو الحكم.

القاضي روث كان قد استقال بعد تعرضه لضغوط مارسها عليه رئيس المحكمة القاضي دايفد باراغوانث بسبب اتهام زوجته بانحيازها للعدو الإسرائيلي. ويُذكر في هذا الإطار أن المدّعي العام لدى ​محكمة التمييز​ (القاضي ​سعيد ميرزا​ يومها) كان قد استدعى ممثل المحكمة الدولية في لبنان طالباً توضيحات بشأن علاقة مزعومة لأحد القضاة بالصهيونية. القاضي المقصود هو روث نفسه كما ذكر، حيث إن صحيفة لبنانية كانت قد نشرت مقالاً أشارت فيه إلى أن زوجته كانت تعمل محرّرة في نشرة يهودية تصدر في جنيف وأن بعض مواقفها داعمة للعدو الإسرائيلي. يعلق روث على ذلك مدّعياً ألّا علاقة بين مواقف زوجته بعمله كقاض ولا علاقة أصلاً تربط النشرة اليهودية بإسرائيل وأن زوجته كانت تعمل فيها في مطلع تسعينيات القرن الفائت لمدة محددة.

وكانت المحكمة الخاصة بلبنان قد شهدت توتراً شديداً بين القاضيين وصل إلى حدّ اتهام روث باراغوانث بـ«التلاعب» بالقرائن للتخلص منه. وفي ذلك ما يدعو للسخرية إذ إن وظائف القضاة التأكد من عدم تلاعب المتخاصمين بالأدلة فمن يتأكد من عدم التلاعب بالأدلة إذا كان القضاة

أنفسهم متخاصمين؟

على أيّ حال يبدو أن هذا الصراع بين قاضيين دوليين أتاح مزيداً من الشفافية بشأن عمل المحكمة الخاصة بلبنان حيث إنه دفع القاضي روث إلى الإفصاح عن معلومات وعرض قرائن تؤكد صحة ما كانت «الأخبار» قد عبّرت عنه من شكوك بحيادية ومصداقية ونزاهة المحكمة الخاصة بلبنان منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757 في 30 أيار 2007.

يدّعي القاضي روث أن طلبَ باراغوانث منه الاستقالة بسبب انحياز زوجته المزعوم إلى إسرائيل، يدل، بحدّ ذاته، على أن وظيفة المحكمة الخاصة بلبنان هي محاكمة «حزب الله» كتنظيم وليس محاكمة أفراد كما ينصّ نظامها الأساسي. فهل يقصد أن انحيازه المحتمل لإسرائيل غير مناسب في محاكمة التنظيمات لكنه يصلح لمحاكمة الأفراد؟ أم أنه يدّعي غياب علاقة تربط بين المتهمين الذين يحاكمون غيابياً وحزب الله وبالتالي فلا تأثير لانحيازه المحتمل لإسرائيل على عمله كقاض؟ أياً يكن الجواب، لا شك أن إجباره على الاستقالة دفعه إلى الإفصاح عن معلومات تفضح بالدليل انصياع المحكمة الخاصة بلبنان للرغبات السياسية للدول الغربية المعادية للمقاومة في لبنان.

يعرّف القاضي روبرت روث مصطلح «تسييس العدالة الدولية» في مقال أكاديمي (نشر في النشرة البلجيكية للقانون الدولي 2017) ويشرح التأثير المباشر لبعض الدول ولبعض السياسيين على عمل المحاكم وعلى قرارات الملاحقة والأحكام حيث تتقدم الاعتبارات السياسية على المعايير القانونية وحيث تتخذ قرارات لا تتعارض مع توجهات سياسية محددة.

ولا شك لدى روث أن المحاكم الدولية المختلطة (أي التي فيها قضاة دوليون ومحليون والتي تعتمد القانون الدولي والمحلي في آن) مثل المحكمة الخاصة بلبنان هي أكثر عرضة للخضوع للتسييس من باقي المحاكم الدولية. وقد يزداد الأمر تعقيداً في ظلّ عدم وجود توافق داخلي وتشريع محلي لإنشاء هكذا محاكم، كما هو الحال فيما يعرف في بعض الأوساط الغربية بـ«محكمة الحريري». إذ يذكّر روث بأن الاتفاقية بين الجمهورية اللبنانية ومنظمة الأمم المتحدة بشأن المحكمة الخاصة في لبنان لم يتم إقرارها من قبل الجانبين بل فُرضت بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1557 (2007) الذي جاء تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

ويضيف القاضي روث، وهو أستاذ في القانون الدولي في جامعة جنيف، أن أحد أبرز موانع استقلالية المحكمة الخاصة بلبنان جاء في تحديد مصادر تمويلها، إذ استُعيض عن خزينة الأمم المتحدة وكُلف لبنان بتسديد 49 بالمئة من كلفتها بينما فُتح المجال أمام الدول الأعضاء لتأمين 51 بالمئة. وشُكل مجلس إدارة للمحكمة في نيويورك يتألف من الممولين الأساسيين (كل من ساهم بأكثر من مليون دولار) للإشراف على تقدّم عملها.

وبات القضاة محكومين بمنطق «الطاعة المؤسساتية» (obeissance institutionnelle) وأداة لتنفيذ سياسة إقليمية خدمة للدول الممولة للمحكمة.

روث لا يقول إن على القضاة الابتعاد عن السياسة بل إن عليهم الاطلاع على البيئة السياسية والظروف المحيطة بالجريمة ومكان وقوعها، لكنه يشرح بأن عليهم أن يكونوا مستقلين عن سياسات الدول وهو ما لا يبدو قائماً بالنسبة إلى قضاة المحكمة الخاصة بلبنان وذلك بسبب «التوجيه الواضح للمشروع السياسي الذي أُنشأت على أساسه هذه المحكمة».

الحكومة الحالية تخالف بيانها الوزاري حيث إنها لا «تتابع مسار المحكمة التي أنشئت مبدئياً بعيداً عن أي تسييس»

يقول روث إن المشروع السياسي الذي أنشئت المحكمة على أساسه كان هادفاً وموجهاً بشكل واسع (tres cible) لدرجة أنه منذ البداية كانت استقلالية ومصداقية المحكمة عرضة للشبهات.

ويضيف القاضي بأن التوتر السياسي الذي كان قائماً خلال مرحلة إنشاء المحكمة شهد تلازماً بين مواقف بعض القوى المحلية مع مواقف بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي. وهو ما يفسّر «الانتقائية الشديدة» (l’extreme selectivite) لاختصاص المحكمة الضيّق والذي اقتصر على جريمة اغتيال الحريري والجرائم التي وقعت بين الأول من تشرين الأول 2004 و12 كانون الأول 2005 ولا يشمل جرائم أخرى مثل الجرائم التي ارتكبها العدو الإسرائيلي خلال عدوان صيف 2006 مثلاً. ويلفت روث إلى أنه لم يكن هناك أيّ مسعى جدّي أو مجرّد محاولة من قبل السلطات اللبنانية والدول الغربية الداعمة للمحكمة لتوسيع اختصاصها ليشمل مثلاً جريمة اغتيال الوزير ​محمد شطح​ أو العميد ​وسام الحسن​ كما كان قد وعد الرئيس ​فؤاد السنيورة​ وغيره في خطابات يبدو أنها كانت مجرّد كلام فارغ. وبالتالي فإن الاعتبارات السياسية هي التي حددت الاختصاص القضائي للمحكمة لا حاجة اللبنانيين إلى إحقاق الحق ومكافحة الإفلات من العقاب.

أما بشأن تحديد القضاة اللبنانيين في المحكمة الخاصة، فيعتقد القاضي روث أنه مخالف لمعايير القانون الدولي. ويشرح أنه كان للسلطات السياسية اللبنانية دور أساسي في اختيار عدد من القضاة المحليين بحسب معايير المحاصصة الطائفية والمذهبية وترشيحهم لتولي مناصب في المحكمة الخاصة. وكان على الأمين العام للأمم المتحدة اختيار أربعة قضاة من قائمة المرشحين لتولي مراكز في غرفتي البداية والاستئناف.

توجيهات سياسية تعطل الدفاع

يؤكد القاضي روث وجود ضغط وضعه مجلس إدارة المحكمة على قضاتها من أجل تسريع الإجراءات. ويشير إلى أن هذا الضغط جاء على حساب حقوق الدفاع عن المتهمين وعلى حساب عدالة تلك الإجراءات. وتكمن المفارقة هنا في أن مبدأ تسريع المحاكمات، بحسب القانون الدولي، ينبغي أن يكون لصالح المتّهمين لا العكس.

على أي حال إن التوجيه في الإسراع في المحاكمة بدا واضحاً في موضوع ضمّ المتهم الخامس (السيد ​حسن حبيب مرعي​) إلى باقي المتهمين في 25 شباط 2014 بعد أن كان قد اتهم في 31 تموز 2013. ويقول روث إن قضاة محكمة البداية استعجلوا ضم مرعي إلى باقي المتهمين والسير في محاكمته من دون منح فريق الدفاع عن حقوقه ومصالحه الوقت الكافي للتحضير والاطلاع على كامل الملف. وشكل ذلك مثالاً على انصياع القضاة لتوجيهات سياسية أتت من مجلس إدارة المحكمة، ولضرورات الحصول على تمويل لها. وأكد القاضي روث أن السيد مرعي حُرم من الدفاع عن حقوقه ومصالحه، إذ استمعت غرفة البداية إلى أدلة فريق الادعاء ضده من دون مشاركة المحامين المكلفين الدفاع عنه الذي تعرّضوا بحسب روث لـ«التدفيش».

لا آلية رقابة على المحكمة الدولية

أخيراً استفاض القاضي المستقيل في شرح غياب المسار الذي يمكن أن يسلكه لعرض شكوى بحق رئيس المحكمة وقضاتها الذين انصاعوا للاعتبارات السياسية لإجباره على الاستقالة واستبداله بالقاضي دايفد ري الذي بدا، منذ الجلسات الأولى للمحكمة متعاوناً بشكل كامل مع رغبات مجلس الإدارة في نيويورك.

لكن ماذا عن الدولة اللبنانية؟ هل طلب ​مجلس الوزراء​ عرضاً مفصّلاً لكيفية إنفاق مئات ملايين الدولارات من خزينة الدولة على محكمة تتحكم بها قوى سياسية أجنبية؟ هل كُلف وزير العدل بوضع تقرير مفصّل عن تجاوز بعض القضاة وبعض المحققين في مكتب المدعي العام للسيادة اللبنانية؟

الحكومة الحالية تخالف بيانها الوزاري حيث إنها لا «تتابع مسار المحكمة الخاصة بلبنان التي أنشئت مبدئياً لإحقاق الحق والعدالة بعيداً عن أي تسييس» (كما ورد فيه)، بل تدفع لها عشرات ملايين الدولارات سنوياً من أموال اللبنانيين من دون أن يتجرأ وزيرا العدل والخارجية فيها على مساءلة رئيستها أو المدعي العام ورئيس القلم فيها أثناء زياراتهم المتكررة إلى لبنان والتي لا يفترض أن تكون للاستجمام.