ضجّ ​لبنان​ خلال الأيام القليلة الماضية بقضيّة ​مرسوم التجنيس​، علمًا أنّ التراشق الذي حصل أخذ الأمور إلى منحى بعيد عن جوهر القضيّة الأساس. وفي ضوء ما حصل، والذي لم ينته فُصولاً بعد، يُمكن تسجيل سلسلة من المُلاحظات.

أوّلاً: أخذ مرسوم التجنيس منحى سياسيًا حيث راح الفريق المُدافع عن المرسوم يُعيّر الفريق الذي يُهاجمه، باعتبار أنّ أغلبيّة الأصوات التي رُفعت بوجه مرسوم منح الجنسيّة لما مجموعه 388 شخصًا كانت إمّا غائبة أو خافتة بوجه مراسيم مُشابهة سابقة، بعضها طال عشرات آلاف الأشخاص وليس مُجرّد بضع مئات لا يُشكّلون أي خطر على مُستوى التوازنات الديمغرافيّة والطائفيّة. في المُقابل، ذكّر المُعترضون على المرسوم بمواقف سابقة كان أطلقها مؤيّدو مرسوم التجنيس الحاليّين، وحملت إعتراضات شديدة اللهجة من جانب هؤلاء ضُد عمليّات التجنيس بالمُطلق، في تناقض كبير وواضح على مُستوى المواقف.

ثانيًا: وضع "التيّار الوطني الحُرّ" الضجّة التي تصاعدت بوجه المرسوم في خانة إنتقاد عهد الرئيس العماد ​ميشال عون​، الأمر الذي رفضه مُعارضو المرسوم، لأنّ من شأنه أن يقسم البلاد إلى مؤيّدين للرئيس والعهد أو إلى مُعارضين له، من دون ترك المجال لخيارات أخرى، مثل إنتقاد ملفّات مُحدّدة أو مثل التموضع بمواقع وسطيّة.

ثالثًا: كان لافتًا جدًا طلب رئيس الجُمهورية من ​الأمن العام​ التدقيق في الأسماء الواردة في مرسوم التجنيس، في مُحاولة لإمتصاص الإعتراضات على ما يبدو، لكنّ ما حصل هو العكس تمامًا، حيث إنتقد مُعارضو المرسوم عدم قيام الأمن العام بهذه المُهمّة من البداية في قضيّة بهذه الأهميّة والحساسيّة، علمًا أنّ اللبنانيّين أنفسهم يخضعون لعمليّات تدقيق مُفصّلة بشأن خلفيّاتهم من جانب الأمن العام، في أكثر من مُناسبة تستوجب الحُصول على شهادة حسن سُلوك من الأمن العام، فكيف يُمكن بالتالي منح الجنسيّة لغير اللبنانيّين من دون التدقيق بخلفيّات هؤلاء الغُرباء مُسبقًا؟!.

رابعًا: بدا لافتًا موقف رئيس "تيّار المُستقبل" رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​سعد الحريري​ الذي إنتقد ما إعتبره تضخيمًا غير مُبرّر لأمور صغيرة، على الرغم ممّا أشيع عن تضمّن المرسوم أسماء قريبة من النظام السُوري، الأمر الذي يُوحي بمسؤولية مُهمّة من جانب "المُستقبل"-مُمثلاً بوزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال نُهاد المشنوق، بالنسبة إلى إصدار هذا المرسوم، وإلى مضمونه أيضًا.

خامسًا: عدم نشر المرسوم حتى تاريخه، والحديث عن أنّ مُراجعة مضمونه تتطلّب فترة زمنيّة طويلة، يبدو أمرًا مُتعمّدًا بهدف إمتصاص الضجّة المُثارة حاليًا، على أن تُلقى إرتدادات هذه القضيّة برمّتها على الحُكومة المُقبلة بغضّ النظر عن الفترة التي ستستغرقها عمليّة تشكيلها، علمًا أنّ إبطال المرسوم في المُستقبل لن يكون مُمكنًا إلا عبر الطعن به أمام المجلس الدُستوري.

سادسًا: إقتصرت الأصوات المعارضة للمرسوم على كل من أحزاب "​القوات​ اللبنانيّة"، و"​الكتائب​ اللبنانيّة" و"​التقدمي الإشتراكي​"، مع تسجيل إعتراض بصوت أقل إرتفاعًا من جانب "تيّار ​المردة​" وبعض الشخصيّات السياسيّة المُستقلة، علمًا أنّ الجامع المُوحّد بين هذه الأطراف كلّها يتركّز على حساسيّة العلاقة مع "التيّار الوطني الحُرّ" وعلى دقّة العلاقات الثُنائيّة مع "تيّار المُستقبل" في إنتظار توضّح الأمور في المرحلة المُقبلة بالنسبة إلى التشكيلة الحُكوميّة التي سيكون لرئيس ​الحكومة​ كلمة فصل فيها، شأنه شأن رئيس الجمهوريّة ومن خلفه "التيّار الوطني الحُرّ". وبدا واضحًا مدى قُدرة هذه الأحزاب والقُوى على تشكيل مُعارضة قويّة سياسيًا وإعلاميًا بوجه السُلطة الحاكمة، الأمر الذي شكّل نموذجًا عن قُدرات هذه المُعارضة في حال إبعادها عن الحُكومة، وبالتالي عن السُلطة التنفيذيّة، ودفعها إلى أداء دور المُعارضة في المُستقبل.

في الخلاصة، صحيح أنّ بعض من رفع صوته إعتراضًا على تجنيس بضع مئات من الأشخاص تغاضى في السابق عن عمليّات مُشابهة وأكثر خُطورة، لكنّ الأصحّ أن مُحاولة تمرير مرسوم التجنيس الجديد بشكل غير شفّاف والإستمرار في تأجيل نشره والحديث عن عدم التدقيق به بالشكل اللازم من جانب ​الأمن العام اللبناني​، يطرح أكثر من علامة إستفهام بشأن الجهات الفعليّة التي تقف وراء هذا المرسوم، وبشأن مضمونه أيضًا. والأكيد أنّ ما ظهر بالنسبة إلى قُدرة بعض القوى السياسيّة على الإعتراض، قد يدفع من يُخطّطون لإيجاد مُعارضة للعهد الرئاسي خارج السُلطة السياسيّة إلى التفكير مرّتين، لأنّ قدرة الإعتراض من قبل هؤلاء كبيرة، خاصة وأنّها تتقاطع مع دعم من جانب بعض وسائل الإعلام المحلّية أيضًا.