على طريقة "ربّ ضارة نافعة"، ينظر كثيرون إلى الإشكال الذي حصل خلال جلسات مناقشة البيان الوزاري بين عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب ​نواف الموسوي​ ونواب حزبي "الكتائب" و"​القوات اللبنانية​"، والذي تمّت معالجته في وقتٍ لاحق من خلال بيان "الاعتذار" الذي تلاه رئيس الكتلة النائب ​محمد رعد​، والذي وُصِف بـ "التاريخيّ".

فعلى الرغم من أنّ ما حدث كان يمكن أن يودي بالبلاد إلى المجهول، إلا أنّ طريقة حلّه ضربت أكثر من عصفورٍ بحجرٍ واحد، فهي من جهة وطّدت قنوات اتصال لا لبس فيها بين "حزب الله" وخصومه، ولا سيما في "الكتائب" و"القوات"، ومن جهة ثانية كرّست ما يمكن اعتباره "تحوّلاً" في "استراتيجية" الحزب الداخلية.

وإذا كان صحيحاً أنّ "انفتاح" الحزب على بعض الأفرقاء في الداخل ليس جديداً، فإنّ الصحيح أيضاً أنّ "اعتذاره" لم يكن سوى حلقة في سلسلة "التحوّلات" التي بدأت منذ مرحلة ​الانتخابات​ النيابيّة الأخيرة، ما طرح أكثر من علامة استفهام في بيئة الحزب قبل خارجها، حول حيثيّاتها وخلفيّاتها، وبالتالي النتائج المنتظرة منها...

مؤشراتٌ بالجملة

ليس سراً أنّ "اعتذار" رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" على ما اعتُبِر "انفعالاً شخصياً" للنائب نواف الموسوي، أتى مفاجئاً بالنسبة لكثيرين في مجتمع "حزب الله" قبل خارجه، ومنهم من بدأ أصلاً "حروباً افتراضيّة" على "الشركاء في الوطن"، داعماً مواقف الموسوي. وليس سراً أيضاً أنّ هذا "الاعتذار" وجد داخل بيئة "حزب الله" من يرفضه ويستغربه، باعتبار أنّه يناقض "المواقف الراسخة" التي لطالما عبّر عنها، بل يذهب إلى اعتبار الحزب ذهب "مكرهاً" إليه، حرصاً على علاقته بحليفة "التيار الوطني الحر" الذي دخل على خطّ الحلحلة، ومنعاً لأيّ "بلبلة" جديدة ليس الوقت مناسباً لها بعد تشكيل ​الحكومة​.

لكنّ المُراقب لمسار "حزب الله" منذ الانتخابات الأخيرة يدرك أنّ هذا "الاعتذار"، ولو كان "تاريخياً"، ليس يتيماً، بل هو يشكّل جزءاً من ​سياسة​ٍ عامّةٍ ينتهجها الحزب، وتكرّست بشكلٍ أكثر وضوحاً بعد الإنجاز الحكوميّ. وفي هذا السياق، يتحدّث البعض عن مؤشّراتٍ بالجملة ظهرت في الآونة الأخيرة، بدءاً من مقاربة الحزب للملفّ الحكوميّ، بعيداً عن عقدة تمثيل "​اللقاء التشاوري​"، وتمسّكه برئيس الحكومة ​سعد الحريري​، ورفضه أيّ دفعٍ له إلى "الاعتذار" أو حديث عن "بدائل"، علماً أنّ البعض من المحسوبين على الحزب أو المقرّبين منه حاولوا مراراً التسويق لمثل هذا "السيناريو" من دون أن يحققوا الأثر المبتغى.

وإذا كان حرص "حزب الله" على عدم تسميّة حزبيّ ملتزم على رأس وزارة الصحّة، خصوصاً في ضوء التحذيرات الأميركية التي ترقى لمستوى التهديدات، جاء في سياق "​السياسة​ الانفتاحية" نفسها، معطوفاً على الكلام "النوعيّ" الذي نطق به عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب ​علي عمار​ دفاعاً عن الحريري في جلسات الثقة، فإنّ انخراط الحزب في معركة "مكافحة الفساد" يبدو الخطوة الأبرز في سياسة الحزب الجديدة، والتي يبدو أنّها دخلت حيّز التنفيذ بعد أشهر من الإعلان عنها، علماً أنّ كثيرين داخل الحزب يخشون أن يؤدي ذلك إلى "تصادم" بين الحزب وعدد من حلفائه، خصوصاً أنّ الأمين العام للحزب ​السيد حسن نصر الله​ سبق أن أعلن "تنصّله" من أيّ "تفاهمات" ثنائية أو غير ثنائية، سبقت الدخول إلى الحكومة.

ما الخلفيّات؟

بالنسبة إلى كثيرين، يكفي التطور الذي طرأ على خط العلاقة بين "حزب الله" و"القوات اللبنانية" لتأكيد "التحوّل" في استراتيجيّة الحزب، الذي كان حتى الأمس القريب، يرفض أيّ تلاقٍ مع "القوات" بعيداً عن "ضرورات" اجتماعات الحكومة و​مجلس النواب​، مع أنّ "القوات" بذلت أكثر من جهد لفتح حوار معه، على غرار الحوارات القائمة بينه وبين قوى أخرى عدّة من خصومه، على غرار "الكتائب" و"المستقبل" وغيرهما.

ولعلّ الأزمة التي أحدثها كلام الموسوي الأخير قلبت "المعادلة" هذه المرّة، وجعلت "حزب الله" يقابل يد "القوات" الممدودة بمثلها، وهو ما تؤكده التسريبات المتداولة حول وقائع مفاوضات ما قبل "الاعتذار"، والتي جمعت الجانبين مباشرة، ومن دون "واسطة". وقد يكون مضمون الاتصال الذي كُشِف النقاب عنه بين النائب الموسوي وزميلته في البرلمان النائب ​ستريدا جعجع​ الأكثر وضوحاً على هذا الصعيد، خصوصاً لجهة ما تضمّنه من إشادة "قواتية" بـ "مناقبية" الخصم، من خلال قول جعجع إن "الخصومة السياسية بإمكانها أن تكون شريفة"، علماً أنّ النائب الموسوي كان "المبادر" على هذا الصعيد، مع النائب "القواتي" ​إدي أبي اللمع​.

ولأنّ التحوّل "النوعيّ" في العلاقة بين "حزب الله" و"القوات" لم يأت يتيماً، وبالتالي لا يمكن اعتباره آنياً، مرتبطاً حصراً بلحظة "الانفعال"، فإنّ علامات استفهام كثيرة تُثار حول "السرّ" خلف التغيير في استراتيجيّة "حزب الله"، وإن كان المقرّبون منه يصرّون على أنّ "انفتاحه" ليس جديداً، وأنّه يعود إلى ما قبل تفاهمه الشهير مع "التيار الوطني الحر"، حين دعا الجانبان باقي الأفرقاء، من دون استثناء، إلى الانضمام له.

ويشير المتابعون إلى أكثر من "خلفيّة" للتغيير في سياسة الحزب، أولهاحرصه على "تحصين" الساحة الداخلية في هذه المرحلة، في ظلّ السخونة المتواصلة في الإقليم. فمع أنّ الحزب الذي يستمرّ في "حربه النفسية" مع ​إسرائيل​، يستبعد أيّ "مغامرة" من جانبها في المدى المنظور، فإنّه يستعدّ لكلّ السيناريوهات، وهو يدرك أنّ "الوحدة الداخلية"، وبالتالي الالتفاف حوله، يبقى عاملاً أساسياً، بل مصيرياً، في تحديد وجهة أيّ معركة عسكرية يمكن أن يجد لبنان نفسه في قلبها.ويضيف البعض إلى ذلك أيضاً، حاجة الحزب إلى الداخل وإلى المواقع المؤثرة فيه، لمواجهة العقوبات الدولية المفروضة عليه والأضرار الناتجة عنها، خصوصاً مع تقلص دوره في ​سوريا​ واقتراب عودته إلى لبنان، في ظلّ التوقعات بأنّ نهاية الحرب فيها باتت وشيكة.

لكن، بعيداً عن ضرورات التهدئة والسلاح والعسكر، وربما أهمّ منها، ثمّة "خلفيّات" أخرى لتغييرات "حزب الله"، تدخل في صلب السياسة وعمقها، ترتبط بوجود قناعة راسخة لدى قيادته بأنّ مبدأ "المقاومة" لم يعد كافياً لاستقطاب الجماهير، في ظلّ الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التي يعانونها، وأنّ جزءاً كبيراً من قاعدته الشعبيّة بات يسأل بصراحة عن جدوى هذه المقاومة، في ظلّ انعدام مقوّمات العيش الكريم بسبب استفحال منظومة الفساد، التي باتت تتطلب مقاومة توازي بالأهمية تلك العسكرية.

بين التحوّل والانقلاب...

لا يعني التحوّل في استراتيجيّة "حزب الله" في الداخل، "الانقلاب" على المواقف والمبادئ والثوابت، وإن ظهر في مكانٍ ما، أكثر "ليونة" في التعامل معها، انطلاقاً من تغليبه الوفاق على الخصام، واعتقاده أنّه ليس بحاجة لمشاكل إضافية، لأيّ سببٍ، خصوصاً أنّ تركيبة البلد الطائفية معروفة، ولا مجال للعب على وترها حالياً.

وإذا كان خصوم الحزب أبدوا في الأيام الأخيرة، ترحيباً بالتغيير الطارئ على سياسته، فإنّ بعضهم لا يزال يطرح الأسئلة عن "الخطط المبطنة" خلف هذا التغيير، انطلاقاً من "أزمة الثقة" التي لا تزال ماثلة، بل إنّ بعضهم يذهب إلى رفض فرضية أنّ "حزب الله يتلبنن" لصالح فرضيّة مناقضة، وهي أنّه من يسعى إلى إلحاق لبنان به، بصورةٍ أو بأخرى...