عندما تحدّث رئيس حزب "الكتائب ال​لبنان​يّة" سامي الجميّل في كلمته بمناسبة "يوم الشهيد"، عن أنّ دور "الكتائب" اليوم هو كسر ما وصفه "الإتفاق الإستسلامي الجَماعي للسلاح"، كان يُصوّب على ما تُسمّيه القوى السياسيّة الأساسيّة "التسوية الرئاسيّة"، وعندما رأى أنّ "الشعارات الفارغة لتبرير الإستسلام والتواطؤ" هو التصرّف نفسه الذي أوصل لبنان إلى 13 نيسان 1975، كان يستهدف كلاً من "تيّار المُستقبل" وحزب "​القوات​ اللبنانيّة" اللذين دخلا في هذه التسوية. فهل فعلاً إستسلمت قوى "​14 آذار​" السابقة، وهل فعلاً بإمكان "الكتائب" كسر ما تعتبره "إستسلامًا جماعيًا للسلاح"؟.

في ما خصّ "تيّار المُستقبل" الذي يُعتبر العَمود الفقري لقوى "14 آذار" السابقة، فهو أدرك أنّ التحوّلات الإقليميّة، وخاصة في ​سوريا​، لم تصبّ في صالح المحور الذي يُناصره، وأنّ إخراج لبنان من حال الإنهيار البطيء الذي كان فيه قبل تنظيم الإنتخابات النيابيّة وفق مبدأ النسبيّة بدلاً من الأكثريّة، وإنتخاب رئيس للجمهوريّة، لا يُمكن أن يتمّ من دون تقديم تنازلات سياسيّة من جانبه. ويتعامل "المُستقبل" مع المُعطيات المحليّة والإقليميّة الحاليّة بواقعيّة كبيرة، ويُدرك أنّ ثمن مُشاركته كشريك أساسي في السُلطة، وكمُحرّك للإقتصاد، هو في مُقابل أثمان سياسيّة تعود في النهاية إيجابًا على لبنان وعلى حال الإستقرار فيه. وبالتالي، لا تغيير مُرتقب لل​سياسة​ ​الجديدة​ التي ينتهجها "المُستقبل" منذ نحو ثلاث سنوات حتى اليوم، لأنّ أي عودة للإنقسام العَمودي السابق، يعني إنهيار لبنان إقتصاديًا وماليًا، ما يَستوجب التضحيّة جزئيًا بعدد من المطالب والمواقف السياسيّة لصالح ثبيت الإستقرار ومُحاولة النهوض بالواقع المعيشي والحياتي. ولا نيّة "للمُستقبل" بالعودة إلى التحالفات السابقة، بل مُجرّد إلتقاء على ثوابت سياسيّة وطنيّة، وعلى تموضعات سياسيّة إقليميّة، مع باقي قوى "14 آذار" السابقة، بغضّ النظر عن بعض المطالب الداخليّة وعن بعض الضُغوط الخارجيّة الداعية إلى إستعادة التموضع السابق المُناهض للفريق السياسي العريض بقيادة "​حزب الله​".

بالنسبة إلى "الحزب التقدّمي الإشتراكي" الذي كان أوّل من خرج بخُطابات مُتمايزة عن قوى "14 آذار"، وأوّل من وافق على الدُخول في تسويات محليّة، فهو يقوم من وقت إلى آخر بتصعيد خطابه السياسي، تارة ضُدّ ​إيران​ وطورًا ضُدّ سوريا، لكنّه عانى أكثر من مرّة من ضُغوط مُباشرة من "حزب الله"، كان آخرها ما حصل خلال الأيّام الماضية، على خلفيّة قرار وزير ​الصناعة​ ​وائل أبو فاعور​ تجميد رخصة معمل ترابة في منطقة ​عين دارة​ عائد إلى "آل فتّوش"، وكان وزير الصناعة السابق ​حسين الحاج حسن​ قد وافق عليه. وليس بسرّ أنّ "الإشتراكي" يتعرّض لضُغوط سياسيّة متعدّدة الأوجه منذ مدّة، الأمر الذي جعله يتنازل ويُهادن في أماكن وينتقل إلى الهُجوم في أماكن أخرى، علّه يحدّ من إرتدادات هذه الضُغوط عليه. وبالتالي من غير المُتوقّع أن يعود "الإشتراكي" ليكون "راس حربة" في الإنقسام الداخلي، وهو الذي صار اليوم بوضع دقيق، ويعمل جاهدًا للحفاظ على مواقعه النيابيّة والإداريّة، في ظلّ تعويم القوى الدُرزيّة المُعارضة له، وفي ظلّ النُفوذ الكبير الذي كسبه "التيّار الوطني الحُرّ" في "الجبل" في الإنتخابات الأخيرة، وكذلك في ظلّ تعامل "حزب الله" معه بقساوة وحزم عند أي خلاف صغير، بغضّ النظر عن الوساطات التي تلي ذلك والتي تُعيد مُجدّدًا ما إنقطع.

بالإنتقال إلى حزب "القوات اللبنانيّة" فهو إختار الدُخول في ​التسوية الرئاسية​، بهدف إصابة عُصفورين بحجر واحد، لجهة طيّ مرحلة الخُصومة الحادة مع "التيّار الوطني الحُرّ"، باعتبار أنّ المُصالحة هي السبيل الوحيد لتنقية ذاكرة "المُجتمع المسيحي"، وكذلك لجهة الدفع لإعادة دوران ​الدورة​ السياسيّة الطبيعيّة لمؤسّسات الدولة اللبنانيّة، بإعتبار أنّ إنتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيسًا للجُمهوريّة كان الخيار الوحيد المُتاح لوقف مرحلة تعطيل الحُكم وإستنزاف الدولة. وعلى الرغم من أكثر من خيبة تعرّض لها حزب "القوّات" بسبب عدم التقيّد بالإتفاقات والتعهّدات السابقة، أكانت مكتوبة أم شفهيّة، فإنّ سياسة المُهادنة ستبقى قائمة في المدى المنظور، والسعي لمُتابعة المطالب بقيام دولة المؤسّسات سيبقى قائمًا من داخل السُلطة وليس عبر تموضعات من خارجها، أثبتت التجربة عدم نجاحها، نتيجة إنقسام ومصالح ضيّقة حينًا، ونتيجة مُعادلات إقليميّة وتفاهمات دَوليّة في غير صالح هذه التموضعات حينًا آخر.

بالعودة إلى حزب "الكتائب اللبنانيّة" فهو كان في خضم مرحلة قوى "14 آذار" يُقدّم طُروحات مُتمايزة، ويُطلق مواقف مُختلفة عنها، الأمر الذي أثّر في حينه على فعاليّة هذه القوى. وليس بسرّ أنّه خلال السنوات الماضية دخل حزب "الكتائب" في مُفاوضات بعيدة عن الإعلام مع أكثر من جهة سياسيّة، من "التيّار الوطني الحُرّ" إلى بعض القوى الأساسيّة من "​8 آذار​"، في مُحاولة للتوصّل إلى إتفاقات "ثنائيّة"، من دون أن تصل هذه الخُطوة إلى نتائج مُثمرة. كما أنّ "الكتائب" شارك في السُلطة، وهو لم يتردّد في الدُخول إلى حُكومة قاطعها حزب "القوّات"، وبالحُصول على ثلاثة وزراء. وإنتقال حزب "الكتائب" إلى الموقع المُعارض الشرس جاء عشيّة الإنتخابات النيابيّة، من دون أن تنجح هذه المُحاولة أيضًا في جذب الناخبين، كما دلّت نتائج الإقتراع. واليوم، يبدو أنّ حزب "الكتائب" إختار العودة إلى الخُطاب المُتشدّد، لتعبئة الفراغ على هذا المُستوى مُنذ دُخول كل من "القوّات" و"المُستقبل" في "التسوية الرئاسيّة"، على أمل إستعادة جزء من الموقع الذي فقده ضُمن المُعادلة السياسيّة الداخليّة.

وفي الخُلاصة، الأكيد أنّه لن يكون هناك أي إستجابة لدعوات حزب "الكتائب" من باقي قوى "14 آذار" السابقة، بغضّ النظر عن إتهامات الإستسلام، ولن يتمّ تضييع الوقت بسجالات إعلاميّة لا تُقدّم ولا تؤخّر، لأنّ الوقت هو للإستمرار بالعمل السياسيّ المدروس، والرامي إلى إستعادة نُفوذ الدولة على حساب الدويلة، بعيدًا عن الخطابات الشعبويّة، حتى لا تنتهي قوى "14 آذار" الرئيسة، بكسب تأييد بضعة آلاف من المُناصرين هنا أو هناك-كما إنتهى غيرها من أصحاب الشعارات الطنّانة والعيش على أطلال الماضي!.