لفت رئيس "​الجامعة الأنطونية​" ​الأب ميشال جلخ​، إلى أنّه "كُتب على "الأنطونية" هذا العام، أن تطفئ شمعة عيدها حزينةً، فقد خسرت ​الكنيسة المارونية​ و​لبنان​ بطريركًا رمزًا، هو البطريرك الماروني الكاردينال ​مار نصرالله بطرس صفير​"، منوّهًا إلى أنّ "حدثًا آخر عاكسنا هذه السنة، لكنّه أقلّ مأساويّة من الأوّل، وهو الإفطار الرمضاني الّذي يقيمه رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ في اليوم نفسه والوقت نفسه، لذلك اتّصل الوزراء والنواب المدعوّون معتذرين عن عدم تمكّنهم من تلبية دعوتنا. ماذا عسانا أن نقول لرئيس جمهوريّتنا: يحقّ له ما لا يحقّ لغيره".

وبيّن في كلمة له في ذكرى تأسيس الجامعة "الأنطونية"، خلال احتفال في صرح الجامعة في بعبدا، "أنّني اخترت هذا العام، أنّ أفكّر معكم بوضع ​التعليم العالي​ في لبنان بين متطلّبات الجودة وإشكاليّات سوق العمل، في ظلمة بعض الإشكاليّات الّتي ألمّت به، ليست فضيحة الشهادات المزوّرة سوى جزء منها، لأنّها تُعبّر عن معضلات أقدم وأعمق تحتاج حلولًا أجرأ وأكثر جذريّةً".

وأوضح الأب جلخ أنّ "أوّلًا في التجارة وما بينهما: تُعتبر تسعينيات القرن الماضي، إنطلاقة لما يُعرف بـ"تتجير" التربية أي جعل التربية تجارةً مربحةً، وهذا ما قلب معادلات كثيرة في الإدارة التربوية واقتصاد التربية، وحتّى في قيم العمليّة التربويّة نفسها، وفرضت على أيّ محاولة إصلاحيّة أن تأخذ في الاعتبار تنافر المعايير والاعتبارات بين أنساق مختلفة من المتسسات، لا يجوز لصنّاع السياسات أن يعامولها بالطريقة نفسها".

وركّز على أنّ "ابتغاء الربح ليس مأخذًا ولا هو تهمة، لكنّه يرفع عن الجامعة ضوابط أساسيّة لا بدّ من تعويضها بضوابط أُخرى، بحيث لا تبتلع اعتبارات ربحيّة كلّ ما عداها، ولا سيما اعتبارات الجودة وأخلاقيّات العمل التربوي والمسؤوليّة المجتمعيّة"، مشيرًا إلى أنّ "الواقع أنّ أجواء كبيرة من المشهد الجامعي اللبناني، مقودة حاليًّا باعتبارات تجاريّة بحتة. في نهاية المطاف، سواء كانت الجامعة رسميّة أو خاصّة، تبغي الربح أو لا، فهي ليست منظومة مقفلة تمتصّ إنجازاتها كلّها، وتدفع أثمان أخطائها لوحدها، بل هي فاعل إجتماعي واقتصادي للمجتمع، عليها حقوق".

وذكر أنّ "ثانيًا، التعليم العالي اللبناني إزاء التوقّعات المجتمعيّة المتناقضة: تتّخذ هذه المسؤوليّة تجاه ​المجتمع اللبناني​، أشكالًا متنوّعة منها ما هو محقّ ومنها ما هو فائض شكوى لا يعرف إلى أين يتّجه، فينصبّ على من هُم في واجهة الخدمة، و​الجامعات​ منها".

وكشف جلخ أنّ "المجتمع يتوقّع منّا أن نمنح الطلّاب وبشكل عادل ومن دون تمييز تعليمًا عالي الجودة، مطابقًا للمعايير العالمية، ويفتح لهم أبواب الجامعات الكبرى وأسواق العمل المربحة. ويتوقّع ألّا نضطرّ إلى رفض أيّ طالب أو أيّ طلب منحة، ويتوقّع أيضًا أن نحقّق نتائج مرضية في التصنيفات العالميّة، مُتناسيًا أنّ التطوير مكلف ماديًّا ولوجيتسيًّا وبشريًّا".

وأعلن أنّ "المجتمع يريد منّا أيضًا أن ننشّئ الشباب على المواطنية وأن ننتج شريحة طالبيّة قادرة على إحداث حراك تغييري، وأن نحلّ مشكلات مزمنة في ديمقراطيّتنا اللبنانية، وأن ننظّم انتخابات سويسرية الدقّة والهدوء، فيما المجتمع من حولنا يتأرجح بين الإمتناع عن الاقتراع تارةً، والاقتراع في الشارع طورًا، وفيما اختلافات الرأي فيه مهدّدة بشكل مستمرّ بأن تنقلب عنفًا". ولفت إلى أنّ "المجتمع يريد كذلك من الجامعات، أن تخطّط لمستقبل البلد الإقتصادي وأن تعرف من تلقاء نفسها أنواع الوظائف والأعمال الّتي يجب تفعيلها، لا أن تعطي طلّابها شهادت وهميّة، لا تؤهّلهم إلّا لصفة عاطل عن العمل".

كما أفاد بأنّ "المجتمع يريد أيضًا أن يحجز لأبنائه مقعدًا في صفوف المهن الأكثر تخمة في لبنان، كالطب والصيدلة والحقوق، والحال أنّ الجامعات ليست الجهة المخوّلة التخطيط الإقتصادي لسوق العمل، وإن هي عرفت بأيّ تجاه ينبغي التخطيط لسوق عمل الغد، فهي لا تملك القدرة على تحريك الإرادة السياسيّة للسير بهذا التخطيط". وشدّد على أنّه "ليس أسهل من التعليم العالي في لبنان إن نظرت إليه كاستثمار، معياره الوحيد الربحية، لكنّ مهمّته ليست سهلًا البتّة إذا نظرت إليه من وجهة الرسالة والدور".

وفصّل جلخ أنّ "ثالثًا، التعليم العالي في لبنان، تميّز وتحديات: لا شكّ في أنّ التربية بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص، قطاع متقدّم في لبنان، له سمعته الطيّبة بالرغم من فضائح الشهادات المزوّرة الّتي انتشرت مؤخّرً، وقد برهن هذا القطاع عن كفاءته وديناميّته بأنّه خرّج نسبًا عالية من نخب ​العالم العربي​ ويده العاملة الكفوءة. قطاع التعليم العالي، هو "واحد من أسباب الخطة السحرية الّتي تجعل لبنان موردًا للتفوّق والإبداع والمبادرة الإنجاز في المنطقة والعالم" على حدّ تعبير رئيس الحكومة ​سعد الحريري​".

وأكّد أنّ "اعتزازنا بهذا القطاع، لا يجب أن يثنينا على التفكير في هشاشات متجذّرة، إضافة إلى مخاطر تأتيه من التغيّرات السريعة في العلوم والتكنولوجيّات والاقتصاد وسواها، يقابلها بطء المعاملات والتطويرات في الدوائر الرسميّة المختصّة"، منوّهًا إلى "أنّنا إذا قرأنا واقع التعليم العالي اللبناني على ضوء نظيره العربي، لَوَجدنا أنّ لبنان يعاني تخمة لا شحًّا في عدد مؤسسات التعليم العالي. تخمةٌ تعود بشكل أساسي إلى تضخّم كمّي في التراخيض لم تراع فيها لا اعتبارات الجودة ولا مقتضيات التكامل بين المؤسسات المختلفة؛ فكانت نتيجته الأساسيّة هيمنة جوّ من التنافس غير المضبوط وغير البنّاء".

إلى ذلك، أوضح أنّ "الحاجة في لبنان نوعيّة وليست كميّة، من هنا توصية تقرير "ماكنزي" مثلًا، بزيادة القدرة الإستعابيّة للجامعات الفُضلى، لأنّ التخمة ليست سوى ظاهريّة، والواقع أنّ محاولة حلّ مشكلة فرص التعليم الجامعي من دون تخطيط دقيق ودون رقابة على الجودة وحاجات السوق، لا تحلّ مسألة فرص التعليم إلّا شكليًّا". وذكر أنّ "أبرز أوجه الأزمة تكمن في تضاؤل مساحات الإختلاط الاجتماعي على صعيد الجسم الطالبي، والتشكيك بين أعضاء الجسم التعليمي في ضعف إسهام التعليم العالي، ولا سيما الجامعة اللبناية، في الترقّي الإجتماعي، وفي صعوبة حقيقيّة على مواكبة التطوّرات على مستوى سوق العمل عالميًّا".

وبيّن جلخ أنّ "المشكلات الأكثر إلحاحًا هي: إنخراط الخرّيجين في سوق العمل، ضمان الجودة وضعف البنى والموارد الخاصّة في البحث العلمي".

وأشار إلى أنّ "رابعًا، سوق العمل في غياب المؤشرات: يغلب اعتقاد بأنّ لبنان يخرّج أعدادًا من الخريجين تفوق حاجته، إلّا أنّ التدقيق في الأرقام ومقارنتها بالمعايير العالميّة، يبيّن أنّ نسبة الخريجين بالنسبة إلى عدد السكان فيه، لا تزال دون المطلوب للنهوض بحاجات المجتمع التنموية". وشرح "أنّنا نخرّج سنويًّا 7.4 خريج بالألف، في حين تصل النسب في الدول الصناعية ك​الولايات المتحدة الأميركية​ و​بريطانيا​ إلى 12 بالألف. مع ذلك، فإنّ 30 بالمئة من العاطلين عن العمل عندنا هم من حملة الشهادات الجامعية".

وركّز على أنّ "في حين ترفع ​الشهادة الجامعية​ من احتمال الحصول على فرصة عمل في الدول المتقدّمة، فإنّ الأمور تبدو معكوسة في عدد كبير من الدول النامية، ومنها لبنان حيث يبدو أنّ من يحمل شهادة جامعية هو أكثر عرضة للبطالة من سواه، ممّا يطرح سؤال المواءمة ما بين التعليم العالي وحاجات سوق العمل، لكنّه يطرح سؤالًا أعمق، هو سؤال الصحة التنموية لهذه البلدان".

وأعلن أنّ "لذلك، ما لم تُستنفر الإرادة السياسيّة والتخطيط الاقتصادي لتحويل هذه الحاجات إلى طلب فعليّ على العمالة الكفوءة، لا قدرة للجامعات على تغيير الوضع. لذا، يجد الخريج نفسه أمام أحد الخيارات التالية: طلب الواسطة السياسيّة أو الطائفيّة للالتحاق ب​القطاع العام​، أو البحث عن عمل في مؤسسات مملوكة من عائلات -وهي تشكّل 85 بالمئة من الشركات اللبنانية- أو البحث عن عمل في الشركات العالمية العاملة في لبنان، أو ​الهجرة​".

كما رأى أنّ "بما أنّ الإحتمالين الأوّلين لا يرضيان طموحات الشباب، ولأنّ المنافسة على الشركات العالمية العاملة محليًّا شرسة جدًّا، يبقى الاحتمال الأخير باب الخريجين الأوسع إلى مسيرة مهنيّة تشبه أحلامهم وتناسب كفاءاتهم". وشدّد على أنّ "الحل ليس بيد الجامعات، وإن كان لها دور فيه. المطلوب إصلاحات اقتصادية تنتج نموًّا حقيقيًّا ومستدامًا، بما يخلق مزيدًا من فرص العمل النوعيّة، ويحدّ من نزيف الأدمغة، فعدد فرص العمل الّتي يخلقها لبنان سنويًّا تقع تحت مستوى توقّعات ​الشباب اللبناني​، وهي في عدد لا بأس به من الحالات، تجعل استثمار ذويهم في تعليمهم العالي استثمارًا خاسرًا ماديًّا".

ونوّه إلى أنّ "عليه، ونظرًا إلى كلفة المعيشة المرتفعة وجاذبيّة الشروط الوظيفيّة في الخارج، فإنّ شرائح كبيرة من الشباب الكفوء لا تجد من المنطقي مقاومة نداء الهجرة. أمّا الجامعات، فمعظمها أنشأ، كما "الأنطونية"، مكاتب للتوظيف والتطوير المهني، تؤدّي دور الوسيط بين المتخرّج والشركات، لعلّها بذلك تعوّض لو جزئيًّا عن ضعف حلقات الوساطة في سوق العمل".