لم أكن يوماً متعصباً رغم العاطفة الخاصة التي تربطني بمنطقتي أو بطائفتي، فيقيني كان ولا يزال، بل يزداد ثقة، بأنّ الخدمة الفضلى التي يقدمها أحدنا لأبناء منطقته وطائفته وجماعته السياسية هي بمدى دفعهم للتيقّن من أن لا مستقبل لهم إلّا في وطنهم الذي يجمعهم بالآخرين، شركاء كاملين من مناطق وطوائف وخلفيات سياسية لا تشاطرهم الكثير من خصوصياتهم، لكنها تتشارَك معهم في ما هو أهم، وهو المصير الواحد.

ليس شعراً ولا رومانسية أن نقول إننا في مركب واحد، وانّ الثقب الواحد فيه ايّاً كان مكانه، يكفي لإغراقه وإغراقنا جميعاً، وانّ قدرنا أن ننجو معاً أو نغرق معاً، ولعلنا نستخلص من التاريخ عبرة اننا كنّا في أحسن أحوالنا عندما كان الوطن يعلو المنطقة والطائفة والجماعة السياسية في الولاء، واننا عرفنا أسوأ أيامنا يوم فعلنا العكس. وعندما نتحدث عن الوطن فنحن بالتأكيد ندرك أنّ كل عضو فيه له مكانته كما في جسد الإنسان، وأنّ مرض أي جزء يسبّب العلة للجسد كله، وانّ تداعي أجزاء الوطن لتعافي جزئه المريض كتداعي أجزاء الجسد بالحمّى حتى يتعافى الجزء المريض منه، لكن كما في الجسد أيضاً تقع حساسية وخصوصية العافية في أجزاء أكثر من غيرها. وليس من العصبية في شيء القول انّ منطقة الشوف، التي هي منطقتي التي أحب، تحتضن في السكان من كل بستان لبناني وردة، وتمثّل نموذجاً للاجتماع اللبناني الطائفي والسياسي. ولا من المبالغة في شيء أنّ تاريخ لبنان يكاد يكون بنسبة كبيرة منه تاريخ الشوف، وانّ جغرافية لبنان تتمحور وتتوزع حول الشوف، فيفصل بينها كما يربط بين أجزائها. ليس غريباً أن نلحظ أنّ السجال السياسي يصير أشد خطورة على الإجتماع السياسي اللبناني عندما يصير عنوان الحياة السياسية الشوفية، وتتجاذب المكوّنات بلغة يعلو الصراخ فيها على مضمون الخطاب، ولا افتعالاً أن نعتقد بأنّ الموسم السياحي المقبل الذي يأمل منه اللبنانيون كثيراً يشكّل مسألة وجودية للشوفيين. ولذلك من المهم أن يلتفت القادة وصنّاع القرار السياسي إلى أنّ العلاقة بين حرارة خطابهم وحرارة موسم الصيف تُقاس في الشوف بمصائر الناس ولقمة عيشهم، وهما حرارتان واحدة منهما تكفي للمرض واجتماعهما معاً قاتل. يحق لنا كلبنانيين أولاً أن نطلب من الساسة أن يرحموا لبنان لكي يَدعوا هذا الصيف الحار ينعم ببعض البرودة في الخطاب السياسي، كي يكون وافر العائدات وبشارة خير على الناس في أرزاقهم.

لكن يحقّ لنا أكثر أن نذكّرهم بأنّ الشوف هو ميزان قياس هذه الحرارة وتلك البرودة، فكيف ونحن أبناء الشوف، وأغلب السجال السياسي الحار يهزّ نسيج مدننا وبلداتنا وقرانا. دعوتنا عامة ولا تحتمل التخصيص ولا توزيع المسؤوليات، فهي نداء استغاثة يطلق مثله البحّارة في حالات الشعور بالخطر، وظننا بالنوايا الحسنة غالب على كل تحليل سياسي، فالأمل هو أن يسمع النداء. إمنحونا بعضاً من الهدوء والعقلانية في التخاطب، لعلّنا نَنعم بصيف وافر الخير يلطّف حدة السخونة في حياتنا الإجتماعية ويمنع الاحتكاكات والتوترات، ويترك الناس تسعى لأرزاقها وهي تبتسم لغد موعود تخشى أن يمر صعباً وقاسياً وشديد الحرارة، فشغّلوا مكيفاتكم السياسية لتبريد الخطاب تبرد قلوب اللبنانيين، وأهل الشوف منهم أولاً.