تهب بين الحين والآخر رياح غربيّة المصدر تصل الى لبنان لاعادة الحياة في جسم المطالبة بتوطين الفلسطينيين في هذا البلد. واللافت ان هذه الرياح تحمل معها في كل مرة، اعذاراً وذرائع عديدة تصب كلها في خانة "تجميل" عوامل ​التوطين​ وابراز "حسناته" وايجابياته، فيما تحذر في الوقت نفسه من اعتبار كل من يعارض هذا الامر بأنّه "عنصري" ويهدّد مستقبل لبنان. والخطورة تكمن في ان المسألة باتت أشبه بالعدوى اذ انتقلت من الفلسطينيين الى السوريين، وربما غداً الى شعوب اخرى...

اليوم، عادت قضية التوطين من باب "​صفقة القرن​" والاغراءات المادّية التي تم الحديث عنها، ومع الرفض اللبناني الرسمي العلني لهذا الامر، ظهر بشكل مفاجىء تيّار بات يتقبّل التوطين الفلسطيني واعتباره بمثابة امر واقع لم يعد من المجدي مقاومته ومحاربته، كما انه يدعو الى دمج الفلسطينيين في الحياة اللبنانية. وينطلق هذا التيار (الذي ليس منتشراً بصورة كبيرة بعد لحسن الحظ)، الى ان يشبه لبنان دولاً اخرى اعطت جنسيتها للاجئين ودمجتهم في البيئة التي يعيشون فيها. ولكن، امام هذا "الاستسهال" في تبسيط الامور، لا بد من التوقف عند نقاط مهمّة واساسيّة في هذا الملف. ويجب بادىء ذي بدء، ان نضع جانباً المشاعر الانسانية وعوامل السياسة التي تدفع فوراً الى الاتّهام بالعنصريّة وتحويل كل من يعارض التوطين الى "هتلر" جديد. وللحديث بعدها، فمن غير المنطقي تشبيه لبنان وما يحصل على ارضه، الى أيّ دولة في العالم، ليس من باب التهرّب من الواقع، بل من باب ترسيخ الواقع. وان وضعنا جانباً الحديث عن ​النازحين السوريين​، فمن غير المقبول ان نضع جانباً مثل هذا المنطق غير السليم في اعتبار ​اللاجئين الفلسطينيين​ شريحة من اللبنانيين، وان الحلّ الوحيد لقضيّة المخيمات ومشاكلها هو دمجهم في الحياة اللبنانيّة وسحب السلاح واعطائهم الحقوق نفسها للبنانيين. في هذا المجال، ووفق المنطق، قد يكون من الظلم ان يولد شخص ويموت في بلد دون الحصول على هويّة هذا البلد المضيف، ولكن في المقابل، في ظل الظروف والاعتبارات المحيطة بلبنان، فإنه يصبح من المنطقي جداً تفهّم الاسباب التي تحول دون اعطاء الجنسية للفلسطينيين، فهم الوحيدون الذي لا يزالون يعانون من "الغطرسة" الاسرائيليّة، حيث انهم خارج منازلهم وارضهم منذ قرابة السبعين عاماً، وهذا يعني ان بقاءهم في لبنان سيجعل من حقوقهم مجرّد رماد في الهواء.

اضافة الى ذلك، يتبع الفلسطينيون ( غالبيتهم على الاقل، كي لا نعمم الشموليّة) طريقة تفكير معيّنة وتترسخ في نفوسهم منذ الصغر افكار الانتفاضة والحقوق المهدورة والتهديد بالإبادة... وبدل ان تتركّز هذه المعطيات والافكار على الاسرائيليين الذين كانوا سبب تهجيرهم، يتحول التركيز الى البلد المضيف، الذي يتمّ الباسه كل الهموم والمشاكل للاجئين وتبدأ عمليّات الانتفاضة واستعادة الحقوق المهدورة ورفض الإبادة انما على اراضي البلد المعني وفي وجه سكّانه ولو وصل الامر الى حدّ حمل السلاح!.

فإذا كانوا اللبنانيين يُضرِبون ويَعتصمون ويَتَظاهرون لاستعادة حقوقهم من الدولة، فكم بالحريّ الفلسطينيين الذين سيعمدون الى القيام بأكثر من ذلك لتحسين ظروف معيشتهم. فيما اوضاع اللبنانيين غير مشجّعة على الصعد كافة: اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. واذا ما استمر هذا التيار في التفكير بطريقته هذه، ونجح في ان يتوسّع ويزداد، فسيصبح الامر بالغ الخطورة، لانّه عندها سينقسم اللبنانيون و"ينقضّ" الغرب على هذا الانقسام ويعمل على ترسيخه دون التسبّب بحرب، وسيصبح الموقف اللبناني هشاً امام العالم الذي سيعتبر ان هذا الانقسام هو دليل عافية للدخول من باب ابقاء الفلسطينيين هنا.

لا يحمل التوطين، مهما تمّ تجميله وتغيير اسلوبه، حلاً ثالثاً: فإمّا انه ابيض واما انه أسود، والايهام بالبقاء تحت هامش اللون الرمادي، هو قضيّة خاسرة للجميع.