في المبدأ، الجميع متفقون على أنّ الصورة سوداوية جداً. ولكن، ثمة مَن يقول: ليس مؤكداً أنّ المواجهات الميدانية في شوارع ​بيروت​ تعني انفلات الأمور. وكذلك تأجيل ​الاستشارات النيابية​. فالتصعيد الجاري قد يكون نوعاً من التفاوض «بالنار»، استعداداً للحظة الجلوس إلى الطاولة. ولكن، هل هذه الإيجابيات موجودة فعلاً أم على الجميع الاستسلام للكارثة؟

لا يمكن الاقتناع بأنّ عبارة «لا للحريري» التي قالتها «القوات اللبنانية» هي التي خربطت «الطبخة» الحكومية. فالحريري في أحسن الأحوال كان سيخرج من الاستشارات بتغطية هزيلة… ثم سيجد شركاءه السلطويين في انتظاره «على كوع» التأليف. وإذا استمر في مواجهتهم والتمسّك بحكومة «خبراء»، فسيشنِّعون به حتى يقع أرضاً ويستسلم!

وأمس، لم تكن مشكلة الحريري مع الميثاقية مقتصرة على المسيحيين وحدهم، بل مع الشيعة أيضاً في شكل غير مباشر. والدليل أنّ الرئيس ​نبيه بري​ هو الذي كان لولب الاتصالات بين ​بعبدا​ و«بيت الوسط»، ما أدى إلى التأجيل.

كان الحريري يأمل في أن يأتيه «دعم» وحيد، من ​معراب​، صباحاً ليستطيع أن يبدأ نهار الاستشارات. وبَدا انتظاره شبيهاً بانتظار عون يوم كان يريد من «القوات» تسميته ل​رئاسة الجمهورية​، عام 2016، فحقّقت له هذا الهدف… قبل أن تندم!

لكنّ «القوات» لم تفعل هذه المرّة، ولم تقدم دعماً حيوياً يحتاج إليه الحريري كي يصبح رئيساً مكلَّفاً. ويقال إنّ «القوات» ردّت على سلوكٍ سابق للحريري تجاهها. كما يقال إنها لم تحبِّذ أن تتراجع عن موقفها المبدئي ب​حكومة تكنوقراط​ ومحايِدة بكاملها.

وأيضاً يقال إنّ «القوات» تفضّل إنضاج الظروف لتولد الحكومة التي تريدها، لا حكومة أمر واقع يترأسها الحريري. وفي رأي البعض أنّ هذا الموقف يتناغم مع ​الانتفاضة​، ومع القوى الدولية المعنية بالملف اللبناني.

ولكن، سواء بعِلم «القوات» أو من دون علمها، فإنّ موقفها منح الرئيس نبيه بري ورقة نادرة يمكن أن يلعبها للدفاع عن الوزير ​جبران باسيل​ الذي زاره أخيراً ونسّق معه المواقف.

ففي استطاعة بري أن يعلن حجب أصواته عن الحريري لأنه يرفض حكومة لا تراعي الميثاقية مسيحياً. وإذا فعل بري ذلك، سيصبح الحريري فاقداً للميثاقية الشيعية أيضاً، إضافة إلى الميثاقية المسيحية.

لذلك، شعر الرئيس ​ميشال عون​ أنه يتمتع بالقوة في مواجهة الحريري. لقد عمد إلى «حَشره» بالوقت، ولم يتجاوب مع مهلة الأسبوع التي طلبها للموعد المقبل، وأصرّ على 3 أيام فقط. والجميع يعرفون أنّ هذه المهلة لا تكفي لإحداث أي تغيير يؤدي إلى إنقاذ الحريري كمرشح. ما يعني أنّ المنتظر يوم الخميس هو أحد الاحتمالات الآتية:

1- أن تقوم قوى السلطة بتأجيل جديد للاستشارات، هرباً من الاستحقاق، ومراهنةً على تطورات تؤدي إلى إحداث خرق في الجدار المسدود. وهذا التأجيل له تكاليف باهظة مالياً واقتصادياً ونقدياً واجتماعياً… وحتى أمنياً. لكن قوى السلطة قد تفكّر في الاستمرار به «انتحارياً» كما تفعل حتى اليوم.

2- أن يعلن الحريري مجدداً الانسحاب من الشوط قبل الخميس، ويبرز إجماع حول شخصية سنّية يرضى عنها كل الأطراف و​الحراك الشعبي​. وهذه المراهنة ربما تفتح نافذة لتسوية، لكنها أيضاً قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة.

فمَن هي الشخصية التي ستحظى في آن معاً بدعم قوى السلطة الخائفة على حالها، ودعم الانتفاضة التي تريد تغيير هذه القوى ومحاسبتها؟ وعلى الأرجح، في هذه الحال، سيتكرّر سيناريو ترشيح ​سمير الخطيب​ و​بهيج طبارة​ واحتراقهما.

3- تراجع الحريري عن رفضه المطلق لتمثيل القوى السياسية، وموافقته على تمثيلها بشكل «ناعم»، أي بوجوه غير استفزازية ومن الصفّين الثالث أو الرابع.

وهذا الأمر يرضي أركان التسوية الحالية، ولاسيما «التيار الوطني الحر» و​الثنائي الشيعي​ وجنبلاط، لكنه مرفوض جداً شعبياً ولا يقدّم إشارة مشجّعة دولياً. وهو قد يتسبّب بانفجار الشارع بقوة، وتكريس الانهيار المالي والاقتصادي وضياع أي فرصة للدعم الخارجي.

4- أن يقتنع الجميع بحتمية ​تشكيل الحكومة​ التي ينادي بها الحراك، والتي أوصَت بها مجموعة الدعم في مؤتمرها الأخير في ​باريس​، والتي هي حكومة الإنقاذ، وموضع ثقة ​المجتمع الدولي​ والمؤسسات المانحة. وهذا الاحتمال صعب التحقّق حتى اليوم، وهو على الأقل يحتاج إلى مزيد من الوقت وعمليات الإنضاج، وليس وارداً في أي استشارات وشيكة.

إذاً، هذه الاحتمالات تكتنفها الصعوبة: بعضها صعبُ التحقّق، وبعضها الآخر صعب العواقب أو خَطِر. ولا يبدو بصيص نور في الأفق ما لم يجرِ خلطُ أوراق عنيف في اللعبة الداخلية، بعدما تخلّت قوى السلطة عن دورها في احتضان التسوية وجعلتها رهينة تداخلات خارجية.

ويعتقد البعض أنّ إرسال ​واشنطن​ مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية ​ديفيد هيل​ إلى بيروت، خلال أيام، وفي هذه اللحظة السياسية، يحمل إشارة مهمّة.

فالرجل يعرف القوى السياسية اللبنانية جيداً، وله علاقات مع الكثير منها منذ أيام عمله في بيروت. والتسوية الحكومية يحتاج إليها اللبنانيون، كما يحتاج إليها الأميركيون لحلحلة الكثير من الملفات الساخنة، والتي ستزداد سخونة في المرحلة المقبلة، سياسياً واقتصادياً.