قبل أن تنهي مهمتها الدبلوماسية في ​لبنان​، وتسلّم "الشعلة" إلى خليفتها دوروثيشيا التي تصل إلى البلاد خلال ساعات، بقّت ​السفيرة الأميركية​ ​إليزابيث ريتشارد​ ما يمكن وصفها بـ"البحصة"، عبر دعوةٍ صريحةٍ وجّهتها إلى ​الشعب اللبناني​ لـ"قلب الصفحة"، على حدّ قولها.

وبدا أنّ المقصود من "قلب الصفحة" هذا، بالمفهوم الأميركيّ على الأقلّ، لم يكن سوى تغيير النظام، الذي شكت ريتشارد في موقفها الذي تعمّدت إطلاقه من قصر بعبدا،بعد لقائها ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، نظراً لـ"رمزيّة" المكان، من أنّه لم يعد يعمل في العقود الأخيرة، معتبرةً الفرصة المُتاحة اليوم أمام الشعب للتغيير "تاريخيّة".

ولعلّ "خطورة" كلام ريتشارد، الذي جاء مكتوباً وبالتالي مفتقداً للعفويّة، تتعزّز إذا ما أقرنت بكلام مسؤولين دوليين آخرين، قد يكون أبرزهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي رأى أنّ "النظام التقليدي" للحكومة في لبنان "لم يعد يتوافق" مع رغبات وآمال قطاعات عدّة من الشعب اللبنانيّ، متحدّثاً عن ضرورة "وجود دولة لبنانيّة ليس لها رؤية طائفية في تكوينها".

فما الذي تعنيه مثل هذه المواقف الدوليّة الصريحة والشفّافة إزاء لبنان؟ وهل يمكن القول إنّ ​المجتمع الدولي​ يدفع فعلاً نحو تغيير النظام القائم؟ وهل مثل هذا التغيير واردٌ أصلاً، بمُعزَلٍ عن النوايا والرغبات؟!.

"ثورة" دوليّة؟!

قد يكون لافتاً للانتباه بل مثيراً للجدل أن تخرج مواقف مناهضة للنظام السياسي القائم منذ عقود في لبنان، في وقتٍ يواجه لبنان أزمةً اقتصاديّة وماليّة هي الأسوأ في تاريخه الحديث، حتى بالمقارنة مع "تعقيدات" ​الحرب اللبنانية​، من دون أن تظهر بوادر "انفراج"، في ضوء "الشروط" الموضوعة أمام أيّ مساعداتٍ يمكن أن تُقدَّم للبنان في هذه المرحلة.

وتمثّل مواقف غوتيريش وريتشارد الواضحة الأخيرة النموذج الأوضح، فغوتيريش مثلاً الذي قال إنّ لبنان يمثّل تجربة للعيش المشترك بين ​الطوائف​ الدينية المختلفة، تحدّث للمرّة الأولى عن ضرورة قيام نظامٍ جديدٍ تغيب عن تكوينه الرؤية الطائفية، منطلقاً في ذلك ممّا اعتبرها رغبات العديد من قطاعات السكان وآمالها ومخاوفها، والتي عبّروا عنها بدعوتهم إلى "إصلاح عميق لآليات العمل السياسي في لبنان والحاجة إلى ​مكافحة الفساد​ بشكلٍ فعّال".

وفي السياق نفسه، يمكن أن توضَع تصريحات ريتشارد التي جاءت أكثر صراحةً بدعوة اللبنانيين إلى تغيير النظام، منطلقةً في ذلك من كون لبنان يقف اليوم أمام "نقطة تحوّل"، على حد ما قالت، في إشارةٍ لا تحتمل اللبس إلى التحركات التي قام بها "مواطنون من جميع الطوائف والمناطق الجغرافية"، متحدّثةً في الوقت عينه عن وجود "فرصة تاريخية لرسم مسار جديد يجعل هذا البلد يدرك كامل إمكاناته كعضو حديث ومزدهر في المجتمع الدولي".

وإذا كانت مواقف غوتيريش وريتشارد وغيرهما تدلّ على ما يحلو للبعض توصيفها بـ"ثورة دوليّة" قد تكون ملحقة بـ"​الثورة​ اللبنانية" التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، وإن انطفأت شرارتها، أو تراجع وهجها بالحدّ الأدنى أخيراً، فإنّ هذه المواقف ترسم برأي كثيرين "خريطة طريق" يريد المجتمع الدولي تنفيذها في لبنان، ربطاً بـ "أجنداته السياسية"، وهو ما تعزّزه التسريبات اليومية عن "فيتو" تضعه ​واشنطن​ مثلاً على أيّ مساعداتٍ يمكن أن تُقدَّم للبنان من جانب الدول الشقيقة والصديقة.

وإذا كان من شأن ذلك أن "يقيّد" قدرة ​الحكومة اللبنانية​ على إنجاز ما تصبو إليه من "إنقاذ"، ولو جاء هذا "الفيتو" تحت عنوان "الإصلاح"، فإنّ ثمّة من يربطه بالظروف الدوليّة، ولا سيما "العقوبات" الأميركيّة المستمرّة ضدّ الجماعات المرتبطة ب​إيران​، ومن ضمنها "​حزب الله​"، والتي لم تتوقف في عزّ "أزمة الوجود" التي يعيشها لبنان في هذه المرحلة.

أيّ تغيير؟

عموماً، يرى كثيرون في "الثورة الدولية" المستجدّة محاولة "إنعاشٍ" لـ "الثورة اللبنانية"، بعد تراجع وهجها في الآونة الأخيرة، وخصوصاً بعد ولادة حكومة حسّان دياب، بموجب "مهلة السماح" التي ارتأت بعض المجموعات منحها إياها، انطلاقاً من القناعة بأنّ الفراغ قد لا يكون الحلّ الأفضل في الوقت الحاليّ، بل من شأنه التسريع في الانهيار الشامل الذي لا يتمنّاه أحد.

ولكن، بمُعزَلٍ عن حسابات "الثورة" الداخليّة، والتي يؤكّد العارفون أنّها لم تنتهِ فصولاً، ولو كانت اليوم في مرحلة انتظار وترقّب نتيجة الظروف المحيطة، ثمّة من يعتقد أنّ "تغيير النظام" الذي يرفع الغرب لواءه، سواء عن حسن أو سوء نيّة، ربطاً بمشاريعه ومصالحه السياسية، ليس من الخيارات الواردة، بالنسبة إلى حلفاء واشنطن قبل خصومها.

ولعلّ العودة إلى "الضجّة" التي أحدثتها الدعوة إلى "​مؤتمر​ تأسيسي" قبل سنوات تكفي للدلالة على ذلك، فالدعوة جاءت من فريق "حزب الله" بالتحديد، ورُفِضت بالمُطلَق من جانب خصومه، بل اعتُبِرت "مسّاً بالخطوط الحمراء"، ما دفع "الحزب" إلى التنصّل منها في وقتٍ لاحق. أما "الخطوط الحمراء" هذه، فلم تكن سوى "​اتفاق الطائف​"، أي ​النظام اللبناني​ المعمول به حالياً بوجهه الطائفي الذي يقول كثيرون إنه كان من "مقتضيات" إنهاء الحرب، ولو استمرّ لعقودٍ، علماًأنّ "​تيار المستقبل​" تحديداً لا يزال يرى في أيّ محاولةٍ لتعديله، جزءاً من "المحرّمات" التي لا يجوز الاقتراب منها، الأمر الذي يجاريه فيه الكثير من الأفرقاء، حتى ممّن يردّدون يومياً الشعارات "الشعبوية" الداعية إلى التغيير.

وفي حين ينطلق موقف "تيار المستقبل" من الهواجس "الطائفية" التي لا تزال تتحكّم باللبنانيين، على رغم كلّ محاولات تسويق خلاف ذلك، فإنّ مواقف الأفرقاء الآخرين، حتى ممّن اتُهِموا بـ "تسلق" موجة ​الحراك الشعبي​، لا تبدو أفضل لناحية "التغيير" المنشود، فـ "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" مثلاً بات يدعو علناً إلى دعم الحكومة، كما جاء في تغريدة رئيسه النائب السابق ​وليد جنبلاط​ الأخيرة. أما حزبا "​الكتائب​" و"​القوات​" مثلاً، فعلى رغم دعوتهما إلى انتخاباتٍ نيابيّة مبكرة في سبيل إعادة تشكيل النظام، إلا أنّهما لا يجدان مانعاً في اعتماد ​قانون الانتخاب​ الحاليّ، الذي صنعته الطبقة السياسية بما يحقّق مصالحها "الطائفية"، ويحدّ سلفاً من فاعليّة أيّ فرصة "تغيير" حقيقيّة أصلاً.

السبيل إلى التغيير...

قد لا تعني المواقف الدولية الداعية إلى قلب الصفحة، أو تغيير النظام، الكثير، لأنّ أيّ "ثورة" حتى تنجح، يجب أن تنطلق من حساباتٍ داخليّة، بعيداً عن أيّ أجنداتٍ دوليّة قد تميل بحسب اتجاه "البورصة".

وإذا كانت هذه المواقف الملتبسة في مكانٍ ما،يمكن أن تحمل الكثير من التفسيرات والتأويلات، فإنّها لا تلزم مجموعات الحراك الشعبي اللبناني، التي كانت حرصت أصلاً في عزّ ​التظاهرات​ التي نظّمتها، على عدم رفع السقف، انطلاقاً من فهمها ربما لطبيعة النظام، ولو كان "تغيير النظام" طموحاً مشروعاً للجميع.

الأكيد انطلاقاً من هذه المواقف، أنّ المطلوب وضع "النظام" على طاولة ​النقاش​ بجدية ومسؤولية، بعيداً عن "خطوط حمراء" وهميّة، أو "محرّمات" لم تعد موجودة،لأنّ من شأن ذلك أن يقود نحو التغيير الحقيقيّ، التغيير الذي يوصل إلى ​الدولة​ المدنيّة المنشودة التي يصبو إليها جميع اللبنانيين، باختلاف وتنوّع انتماءاتهم السياسيّة...