ترتسم تحديات كثيرة على طريق التفكير بإعتماد "التعليم عن بعد" في ​لبنان​، حيثُ البعضُ من ​الجامعات​ والمعاهد الخاصة المَطروحةٌ أسئلةٌ كثيرَةٌ حول آدائها، تختبئ وراء جامعات عريقة وذات مستوى عالمي، لتُمعِنَ فساداً في العملية التعليمية خلال هذه الفترة الضبابيّة، بعد ان كانت بعض هذه الجامعات والمعاهد موضعَ ملاحقةٍ مُتابعةٍ اداريةٍ وتفتيشيّة وقضائية. ويأتي "التعليم عن بُعد" كإجراءٍ موقَّتٍ و مُساعِدٍ، لا كَحَلٍّ بديل، ليشكِّلَ منفذَ عبورٍ جديد، تستعيد معه تلك المؤسسات زخمها التجاري، لتمريرِ برامج وإعتماد مناهج خارج الإعتراف والإعتماد الأكاديمي، وهذاما سيطرحُ مشكلةً قانونية وأكاديمية في عملية الاعتراف بالشهادات ومعادلتها وفق القوانين والأنظمة. وهذه مشكلة كبرى ستنتج عن مغامرة "التعليم عن بُعد" إذا لَمْ يتمْ وضعُ ضوابطُ إستباقية لهذه العمليات، التي أعتبرها برأيي الخاص عمليات تبييض شهادات لا الأكثر.!

ومن علاماتِ السُوءِ في زَمَنِ "​الكورونا​"، إنتشارُ مُبارَزاتٍ إِسْتِعراضِيَّةٍ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ غَيْرِ المَعْنِيِّنَ مُباشَرَةً بإِدارَةِ العَمَلِيَّةِ التَعليميَّةِ والتَدريسِيَّةِ في المستويين التربوي والأكاديمي، لِلتَرويجِ لِنِظامِ "التعليمِ عَنْ بُعْد" في هذه الفترة، وكأّنَّهُ الحَلُّ الإستراتيجيُّ لِقَضِيَّةِ التعليمِ والتَعَلُّمِ، في الوقت الذي تَراجَعَتْ في دُوَلٌ كَثيرةٌ عَنْ إعتماد هذا النظام التدريسي، بعد فترةٍ إِعْتُبرت بالإختبارية، حيث تَمَّ حَذفُهُ نهائِيَّاً من برامِجها وإعتماداتها الأكاديمية،إِثْرَثُبوتِ عَدَمِ نَجاحِهِ وفاعليته، وإزديادِ الشَكِّ في جَدْوى نَفْعِيَّتِهِ، فَضلاً عَنْ وُجودِ أَخْطارٍ في إعتماده وتطبيقه، تَتَرَكَّزُ في نِقاطٍ، أَبْرَزُها :

١-عَدَمُ فاعِلِيَّةِ هذا النُموذَجِ، لِجِهَةِ إنتفَاءِ لُزومِيَّةِ الإنتظامِ الحُضوري داخل الحَرم الجامعي، والتَأَكُّدِ مِنْ صِحَّةِ شَخْصِيَّةِ الطالب المُسَجَّلِ، وَكَيْفِيَّةِ مُتَابَعَتِهِ لِلدروسِ النَظَرِيَّةِ والأَعمالِ التَطبيقِيَّةِ، ومَدى وكَيْفِيَّةِ تفاعُلِهِ معَ الدُروسِ والأَساتِذَةِ في فَضاءٍ مَفتوحٍ، لَيسَ مَعروفاً مَنْ يَدْخُلُ إليهِ، ولا مَنْ يَخْرُجُ مِنه، ولا كيف تتم فيه عملية الإختبار، وإجراءُ الامتحانات، وتَقويمِ الآداء، والتجاوب مع الشروح،ومِقداريَّةِ الإستيعابِ والفهم، ولا كيف يمكنُ تصنيفُ تراتبيّةِ الطالب، على قاعدة المستوى الإكتسابي أو الإبداعي والتألُّقِي.

٢-إِنَّ مَخاطِرَ نِظامِ "التَعليمِ عَنْ بُعْد" في بَلَدٍ مِثْلَ لُبنان، الذي تَدَرَّكَتْ فِيهِ مُستوياتُ التعليمِ الجامعيِّ نُزولاً وبِشَكْلٍ حادٍ، بِفعلِ حالةِ الفَوْضى والإلتباسِ وإنِحدارِ المُستوى بَعْدَ طَفَرَةِ تَكاثُرِ تراخيصِ الجامعات والمعاهد الخاصّة وما رافَقَها مِنْ تَجاوزاتٍ وإنتهاكاتٍ للقوانينِ والأنظِمَةِ، وُصُولًا الى تَزويرِ شهاداتٍ وإعطاءِ إفاداتٍ، لِطُلّابٍ لَمْ يَتَسَجَّلوا، وبَعْضُهمُ لَا يَعْرفُ لا عُنوانَ الجامعة ولا أَيَّ شَيءٍ عنْ تاريخِها وأصحابِها وتُراثِها ورِيادَتِها العِلميَّةِ ونِتاجاتِها البَحْثِيَّةِ.

٣-إِنَّ التسويقَ التَرويجِيَّ لنظامِ التعليمِ عَنْ بُعْد في هذهِ الظروفِ الدقيقةِ والإستثنائِيَّةِ من عُمرِ الوطن، هوَ أَمْرٌ يَحْتَمِلُ تَساؤلاتٍ عدةٍ، ويَحمِلُ آراءً إرْتِجاليَّةً مُتَسَرِّعَةً، لا يُمْكِنُ الرُكونُ إليَها، ولا الإطمئنانُ إلى وَضعيّتها، بَعْدَ فَشَلِ التَجْرِبَةِ في أكثريةِ الدولِ والجامعاتِ العريقةِ التي إعْتَمَدَتها لِفَتْرَةٍ مَحْدودَةٍ، ثُمَّ حَذَفَتِ "التعليمِ اونلاين" مِنْ كُلِّ مناهجها وبرامجها والاختصاصاتِ التي تُدَرِّسُّها، حِفاظاً على مُسْتَوَيَيْنِ :

أ-مُستوى الجامعةِ وسِمْعَتِها والحفاظِ على عراقتها، ودَرَجَةِ تَقْييمِها في التَصنيفاتِ الأكاديمية الدولية.

ب-مُستوى الإختصاصِ، الذي يَتِمُّ تَدريسُهُ، ومدى إنعكاسِ ضُعْفِ المُستوى الأكاديمي على المستوى المِهَنِيِّ. وهذا ما ظَهَرَ أَكْثَرَ وبشكلٍ مُباشَرٍ في الإختصاصاتِ العلمِيَّةِ الخالِصَةِ، كالطِبِّ والصيدَلَةِ والهندَسَةِ، وغَيْرِها منَ التَخَصُّصاتِ التي تَتَطَلَّبُ منَ الطالبِ حُضوراً ومُوَاظَبَةً وًمُشارَكَةً في أَعمالِ المُخْتَبَراتِ اللَّازِمَةِ لِبعضِ الاختصاصات. هذا الأمرُ الخَطيرُ، إعْتَبَرَتْهُ النقاباتُ المِهَنِيَّةُ المُنَظَّمَةُ وِفقَ قوانينَ خاصّةٍ بها، أَنّه يَمُسُّ بِصِدقِيَّةِ التخصّصِ ويَطالُ كَرامَةَ المِهنٍةِ، التي تَستلزِمُ الحصولَ مُسْبَقاً على إِذنِ مُزاوَلَةٍ المِهنَةِ منَ المَراجِعِ الرسميَةِ في البلَد، لِلْتَأكيدِ على خُصوصيَّتِها العلمية وإِثباتِ حَصْرِيَّةِ عَمَلِها، ومَسؤولِيَّةِ دَوْرِها المِهَنيِّ، فضلاً عن المعايير العلمية والشروط الإختبارية، وإمتحانات القبول والخبرة التي تفرضها النقابات، مثل إمتحانات الكولوكيوم وغيرها من شروط القبول والتدرِّجِ، إضافة الى معياريّة المناهج ومضمون المقررات وغيرها من مستلزمات التخصص.

٤-إِنَّ التَدبيرَ الإحترازيَ الذي إتَخذه وزيرُ التربية الدكتور طارِقِ المَجذوب لِتأمينِ ظروفِ "التعليمِ عَنْ بُعْد" للتلامِذِةِ في هذه الظروفِ القاهِرَةِ، هُوَ خُطْوَةٌ تَربويَّةٌ مَسؤولَةٌ و واجِبَةُ، من شأنِها تَوفيرُ التعليمِ خارجَ الصَّفِ ولِمُدَّةٍ مَحدودَةٍ، لها تَبريراتُها الظَرْفِيَّةُ آلتي تُراعي حالاتِ الجهازَينِ التعليمي والإداري، إضافَةً الى مراعاة مصلحة ووَضْعِيَّةِ التلامذة وما يَجَبُ تَوفيرهُ لهم من ظُروفِ وِقائِيَّةٍ وشُروطِ حِمايةٍ وتَدابيرَ رِعايَةٍ، مع ما تَسْتَلزِمُهُ هذهِ البادِرَةُ المُوَقَّتَةُ من تَدابيرَ لوجِيستِيَّةٍ و قراراتٍ إداريَّةٍ.

٥-والقرار الذي إتخذه رئيس ​الجامعة اللبنانية​ البروفسور ​فؤاد أيوب​ بالطلب الى عمداء الكليات والوحدات الاكاديمية، بالتعليم عن بعد، في هذا الظرف الإستثنائي والقاهر، حرصاً على سلامة ​الطلاب​ و​الاساتذة​ والإداريين، ومصلحة الطلاب وإنقاذ العام الجامعي، هو إجراءٌ مَسؤولٌ وقرارٌ أكاديمي حكيم، في مسعىً للحفظ على حقوق الطلاب وتأمين ظروفٍ ملائمةٍ للتعلُّمِ ومتابعة الدروس والمحاضرات عن بعد، عن طريق أنظمةٍ رقميةٍ من خلال وسائل التواصل، ومن خلال ضوابط يتم الإشراف عليها وتطبيقها من قبل عمداء الوحدات ومديري الفروع. وهذا أفضلُ ما يمكن تداركه وإتخاذه من مبادرات لإنقاذ وإتمام مناهج العام الجامعي الحالي. مع الحرص ان يتم لاحقاً وضع آليةٍ للتشاورِ حول كيفية إجراء الامتحانات، خصوصاً ان القوانين تنصّ صراحة على وجوب إجرائها ضمن الحرم الجامعي ووفق الاصول الاكاديمية والتدابير الإدارية اللازمة.

٦-وفي إطار ترتيب احوال التدريس في ​المدارس​ وما يستلزمها من إجراءات اداريّة، اتخذ مدير عام التربية الأستاذ ​فادي يرق​ إجراءات وتعاليم للشروع في إنقاذ السنة الدراسية والحفاظ على الأمن الصحي للجهازين التدريسي والاداري وللتلامذة، بما يكفل تأمين الحد الأدنى المطلوب من شروط المتابعة والقيام بالواجبات والفروض المدرسية.

وكل هذه القرارات والمبادرات والتعاميم، تلتقي حول تنفيذ قرارات ​مجلس الوزراء​ بإتخاذ كل التدابير الحمائيّة اللازمة، والالتزام بمقتضيات مرحلة التعبئة العامة، تطبيقاً للقرارات والتوجيهات الحكومية على أكبر شريحة من المواطنين، هي القطاع التربوي والمجتمع التربوي اللبناني بشكل واسع.

غيرَ ان ما يجبُ التنبّه اليه اكثر في هذه المرحلة الاستثاتئية والقاهرة، هو أَلاَّ تكون هذه الظروف مجالاً للإستغلال من قبل مَنْ قَد يَرَوْنَ ان الفرصة سانحة لطرح فكرة "التعليمِ عن بعد" كمخرجٍ دائم ومُقَوْنَنٍ للتعليم الاكاديمي في بعض التخصصات، بَعْدَ ان سقطَ هذا الإجراء والمنهاج في اكثر الجامعات الغربية التي اعتمدته لفترةٍ، ثمّ عَدّلته وعدلَتْ عنه.

إن للتعليم عن بُعد مخاطر وتحديات كثيرة، لا يمكن للنظام التعليمي اللبناني تجاوزها في ظلّ ما يستحكمُ به من تعقيداتَ تنظيمية وازماتٍ مالية ووضع اقتصاديٍّ، اضافة الى حاجته الى قوانين وانظمة ومراسيم تُحدِّدُ فلسفته وتبرِّر ظروفه وتنظم مناهجه وآليات التدريس والمتابعة والتقويم والامتحان والترفيع، خصوصًا ان القانون الناظم "للتعليم العالي" رقم ٢٨٥/٢٠١٤، لَيسَ فيه أيًّ ذكرٍ للتعليم عن بعد. كما ان "لجنة الاعتراف والمعادلات" لا تعترف بالشهادات ولا بالبرامج "اون لاين" إلاّ وفقٍ شروطٍ ضيقةٍ،بان لا تكون نسبة المقررات المسموح بِتدريسها عن بُعد لا تتجاوز نِسبةً محددة من مجموع المقررات المُدرجةِ في مناهج الجامعات والمعاهد العليا المُعتَرَفِ بها قانونا.