ليس خافياً على أحد أنّ المعركة بين الموالاة والمعارضة وصلت إلى "ذروتها" خلال عطلة نهاية الأسبوع، على وقع "تسخين الجبهات" الذي أفرزه طرح إقالة حاكم ​مصرف لبنان​ ​رياض سلامة​، والمواقف التي أطلقها رئيس الحكومة حسّان دياب في هذا الصدد.

بدا "الفرز" أكثر من واضح بعد كلام دياب، من خلال "الاستنفار" الذي سُجّل على خطّ العديد من القوى المعارضة، التي صوّرت الأمر وكأنّه "حرب إلغاء" جديدة يمارسها "العهد" بحقّ خصومه، وقد تجلّى ذلك بتصريحات رئيسي تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​ و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​.

وفي حين رأى كثيرون أنّ هذه التصريحات تخطّت السقوف المرسومة، ودفنت في طريقها كلّ ما يمتّ لـ"الهدنة" بصلة، تحت عنوان الدفاع عن النظام المصرفي، وعن سلامة على وجه التحديد، بدا "نافراً" بالنسبة لهم، "التمايز" الذي تسلّحت به "​القوات اللبنانية​"، والتي لم يتردّد رئيسها ​سمير جعجع​ في تبنّي فرضية "الخطايا" في عمل مصرف لبنان.

فما الذي يعنيه "التمايز القواتي" في عزّ حملة المعارضة على دياب وحكومته؟ وأيّ رسائل يمكن تلقّفها من خلفها، سواء للحكومة، أو حتى لقوى المعارضة المفترضة؟!.

بانتظار الكلمة الفصل!

قد يقول قائل إنّ ما ينطبق على "المستقبل" و"الاشتراكي"، ودفع بهما إلى تصدّر "الثورة" ضدّ الحكومة، دفاعاً عن حاكم مصرف لبنان، لا ينطبق بالضرورة على "القوات"، التي كانت، بعكسهما، "مغيَّبةً" عن الحكم والحكومة، طيلة مرحلة ما يمكن تسميتها بـ"الحريريّة السياسيّة".

وانطلاقاً من هذا المُعطى، يمكن القول إنّ رئيس حزب "القوات" لم يشعر بثقل "الأسباب الموجبة" التي تدفعه إلى التصدّي لخطّة مواجهة رياض سلامة، كما فعل رئيسا "المستقبل" و"الاشتراكي"، باعتبار أنّ الأخيريْن قرآ خلف النهج الحكوميّ المستجدّ لهما، "استهدافاً" شخصياً ومباشراً لهما، وصولاً إلى حدّ التهديد بالإلغاء والإقصاء.

من هنا، يقول العارفون إنّ جعجع فضّل "التريّث" في إطلاق موقفه النهائيّ، حتى لا يقع ربما في فخّ "الانفعالية" التي طبعت تصريحات جنبلاط والحريري، والكثير من القياديّين في تياريْهما، والتي يرى كثيرون أنّها أضرّت بهم أكثر ممّا نفعتهم، لما انطوت عليه من "اعترافات" غير مباشرة بالاستفادة من "الفوضى" غير البنّاءة المعمول بها لبنانياً، بدليل التصدّي للمشاريع المطروحة على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء المقبلة، وصولاً إلى حدّ اعتبارها "كيديّة وانتقاميّة"، على رغم أنّها تندرج من حيث المبدأ، ضمن عنوان "​مكافحة الفساد​ واستعادة الأموال المنهوبة".

وبانتظار "الكلمة الفصل" التي يُنتظر أن تصدر عن حاكم مصرف لبنان، رداً على الاتهامات التي وجّهها إليه رئيس الحكومة، في ظلّ معلومات عن ردّ مفصّلٍ بالأرقام سيكون بمتناول الرأي العام خلال الساعات المقبلة، والتي ينتظرها "القواتيّون" ليبنوا على الشيء مقتضاه، وفق ما يقولون، فإنّهم يحيلون سائليهم إلى الموقف "المبدئي" الذي صدر عن جعجع، والذي يفسّر وجهة نظرهم من كلّ النقاش الحاصل في البلد، ومغزاه أنّ "ورشة الإصلاح" تبقى منقوصة إذا ما اقتصرت على مسؤولٍ دون غيره، وهي يجب أن تشمل كلّ الإدارات وكلّ المسؤولين على المستويات المالية والإدارية والسياسية كافة.

تضامن "عالقطعة"!

يقول "القواتيون" إنّ جعجع كان واضحاً في بيانه الأخير، برفض "الانتقائية" في معركة الإصلاح المفترضة، لأنّها تفرّغها من مضمونها، وتصوّرها كأنّها محاولة اقتصاص من شخص معيّن، محسوب على فئة محدّدة، دون غيره، وهو ما يحصل في قضية سلامة مثلاً، وهم يصرّون على أنّ المسؤوليات المالية في ظلّ الانهيار الحاصل لا يمكن أن توضَع على عاتق "الحاكم" وحده، بل قبله على الأكثرية السياسية الحاكمة، والتي لم تعد ممارساتها المرتبطة بالهدر والفساد في مؤسسات الدولة، والتوظيفات العشوائية بخافية على أحد.

لكن، مهما قال "القواتيّون" لتفسير موقفهم أو شرحه، فإنّ ذلك لا يحجب حقيقة أنّ ما "علق" في ذهن الحريري وجنبلاط وغيرهما من كلام جعجع الأخير، يقتصر على "المقدّمة" التي انطلق منها لتوضيح وجهة نظره، وفيها إقرارٌ صريحٌ بـ"ثغرات وأخطاء وربما خطايا في عمل مصرف لبنان"، بل قوله إنّ هذا الأمر "لا يختلف عليه اثنان في لبنان"، وهو ما من شأنه أن "يبرّر" الحملة على حاكم المصرف المركزيّ من قبل الحكومة، بل أن يمنحها كلّ "الشرعيّة" التي تتوخّاها، باعتبار أنّ ملاحقة أيّ مسؤول لا يفترض أن تكون مرتبطة بملاحقة آخر من الناحية القضائية، حيث تفقد قاعدة "الستة وستة مكرر" مفعولها المفترض.

وانطلاقاً من ذلك، لا يخفي العارفون وجود "رسائل" أراد "القواتيون" إرسالها إلى "أصدقائهم المفترضين" في المعارضة خلف "تمايزهم"، باعتبار أنّ من يرفض بالمُطلَق إنشاء جبهةٍ معارضة موحّدة ومتماسكة، لا يحقّ له أن يسائل أحداً على سبب عدم "تضامنه" مع هذا الطيف المُعارِض أو ذاك. ويربط هؤلاء موقف جعجع، بموقف الحريري المُبرَم منه، والذي لا يزال يحول دون "التحالف" بينهما، بحسب ما تؤكّد كلّ التسريبات المتداولة، مع أنّ "الاشتراكي" بذل جهوداً في الآونة الأخيرة لتقريب وجهات النظر، من دون أن ينجح في مساعيه، نظراً لـ "عمق" الجرح الذي تعود جذوره إلى مرحلة استقالة الحريري الشهيرة من السعودية.

أكثر من عصفور بحجر!

عموماً، يبدو سمير جعجع كمن ضرب أكثر من عصفورٍ بحجر "التمايز" عن سائر القوى المعارضة، في الموقف من حاكم مصرف لبنان، وسياسات الحكومة إزاءه.

فهو، من جهة، أبرز نفسه كأنه طرف "محايد" في "المعركة" مع سلامة، وليس من "المنتفعين" من السياسات الاقتصادية التي كرّسها، كما ظهر حال آخرين ممّن صوّروا سلامة وكأنّه "لا يُمَسّ"، في تكريسٍ لنهج "الخطوط الحمراء" التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من انهيارٍ محتّم.

وفي وقتٍ وضع نفسه في خانة "المعارضة البنّاءة" للحكومة، متسلّحاً بـ "التريّث" بانتظار الاستماع إلى أقوال سلامة، في سياق الدفاع عن النفس، فهو سجّل نقطةً أيضاً على حساب نظرائه في "المعارضة"، عبر الإيحاء بأنّ "التضامن" معهم له شروط، وبالتالي فمن غير الوارد ممّن يرفض وضع يده بيده، أن يتخيّل أنّ موقفه "مضمون".

لكن، بين هذا وذاك، وبعيداً عن الحكم على النوايا المضمرة خلف سطور كلام جعجع، فإنّ بيت القصيد فيه يبقى أنّ أيّ خطّةٍ إصلاحيّة، حتى لا تقع في فخّ "الانتقام السياسي"، يجب أن تكون متكاملة، بما يشمل الموالين والمعارضين على حدّ سواء، ممّن جمعتهم المصالح نفسها، قبل أن تفرّقهم السلطة، في لحظة "تخلٍ" ربما...