نظريًا القوى السياسيّة ال​لبنان​يّة كافة مُنكفئة عن الساحة، لكن عمليًا الصراعات في ما بينها مَفتوحة على مصراعيها، سياسيًا وإعلاميًا وحتى قضائيًا، في ظلّ تحضيرات بعيدة عن الأضواء لمعارك كسر عضم مُقبلة!.

في مُعسكر قوى "​14 آذار​" السابقة، تعلّم حزب "​القوات​" الدرس جيّدًا، ولم تعد تُغريه زيارات "غبّ الطلب" من مُوفد "إشتراكي" هنا، ومن مُوفد "مُستقبلي" هناك، لخوض معارك مع العهد و"التيّار الوطني الحُرّ" و"​حزب الله​"، بالنيابة عن الآخرين! والسبب أنّ التجارب السابقة أظهرت أنّ كلاً من "المُستقبل" و"الإشتراكي"يستميلان "القوات" في كلّ مرّة يتعرّضان فيها لحملة سياسيّة، ثم ما يلبسان أن يدخلا في مُفاوضات ووساطات من تحت الطاولة مع خُصومهما، فيستفيدان من موقف تفاوضي قويّ، غالبًا ما ينتهي بتسوية تكون "القوّات" خارجها كليًا! في المُقابل، إنّ "تيّار المُستقبل" الحريص على صيانة تفاهمه بشكل دائم مع الحزب "الإشتراكي"، حتى لا يبقى مَعزولاً بعد إنفراط عقد تفاهمه مع "التيّار الوطني الحُرّ"، لا يقوم بخُطوات مُماثلة مع "القوات"، إنطلاقًا من تراكمات خلافيّة سابقة، زادت حدّتها بشكل كبير بعد تصويت "القوات" في غير صالح رئيس "المُستقبل" النائب ​سعد الحريري​ خلال مرحلتي التكليف والتأليف، الأمر الذي دفعه إلى الإنسحاب طوعًا من مهمّة تشكيل الحُكومة. وبالنسبة إلى الحزب "الإشتراكي"، فهو يرفع الصوت إعتراضًا بشكل حاد وعنيف مع العهد و"التيّار"، ثم يعود لينتقل إلى مبدأ "تنظيم الخلاف" الهادئ، وذلك بعد كلّ خضّة، وعند كلّ إستحقاق، وحتى عند كلّ تعيين في بعض الأحيان! وقد إرتأى كلّ من "القوات" و"المُستقبل" و"الإشتراكي"، أنّ الخيار الأفضل للحفاظ على مجموعة سياسيّة مُعارضة فعّالة بوجه العهد و"التيّار الوطني الحُرّ"، يكمن في التحرّك بشكل مُستقلّ لكلّ منهم، بعيدًا عن أيّ أحلاف وجبهات واسعة ومُوحّدة، علمًا أنّه لا يُوجد تفاهم حاليًا بشأن جدول أعمال هكذا جبهة بين المُعارضين أنفسهم، ناهيك عن أنّ أيّ جبهة من هذا النوعستستدرج تحالفات وجبهات سياسيّة مُضادة لا مصلحة لهم في قيامها.

في مُعسكر قوى "8 آذار" السابقة،يُمكن القول إنّ التنافس القائم ما بين "التيّار الوطني الحُرّ" و"تيّار ​المردة​" على موقع رئاسة الجُمهوريّة، وعلى إستقطاب المسيحيّين غير المُؤيّدين للقوى التي هي خارج الحُكم حاليًا، بلغ ذروته مؤخّرًا، بعد أن قرّر رئيس "تيّار المردة"، الوزير السابق سليمان فرنجيّة، الذهاب بعيدًا في تصعيده ضُدّ "التيّار"، ردًا على إعتباره أنّ مُلاحقة شخصيّات مَحسوبة عليه بتهمة ​الفساد​، يدخل في سياق إستهدافه الشخصي. ويبدو رئيس "المردة" واثقًا بأنّ الضغط الذي يتعرّض له حاليًا مَرهون بإنتهاء ولاية الرئيس العماد ​ميشال عون​ في العام 2022، ليفقد "التيّار" قُوّته المُتأتيّة من السُلطة وليس من دعم الناس–كما قال. إشارة إلى أنّ هذا الرهان مَبني إنطلاقًا من أحاديث تجري خلف الأبواب المُغلقة، وتتحدّث عن أنّ "التيّار الوطني الحُرّ" صار يُواجه خُصومًا بالجملة، الأمر الذي سيجعله شبه وحيد في أيّ إستحقاق مُقبل، بإستثناء دعم مَحدود قد يحصل عليه من قبل "حزب الله" و"​حزب الطاشناق​" وربّما "​الحزب القومي​ السُوري الإجتماعي". وفي هذا السياق، وإضافة إلى تموضع كلّ من "المُستقبل" و"القوات" و"الإشتراكي" في موقع الخُصومة مع "التيّار"، وعدم إستعداد أيّ منهم لإعادة تجربة التفاهم الفاشلة معه في المدى المنظور، فإنّ "​حركة أمل​" و"تيّار المردة" وقوى سياسيّة أخرى في محور "المُقاومة"، غير مُتحمّسة لتجديد البيعة للتيّار–إذا جاز التعبير، في أيّ إستحقاق أساسي مُقبل، وتحديدًا في الإستحقاق الرئاسي في نهاية العام 2022، الأمر الذي يُضعف فرص وُصول رئيس "التيّار"، النائب ​جبران باسيل​، إلى سُدّة الرئاسة.

في المُقابل، إنّ حسابات "التيّار الوطني الحُرّ" ورهاناته مُختلفة تمامًا، لا بل مُناقضة، حيث يَعتبر أنّ فوزه في معركة الفساد التي يعمل على فتحها على مصراعيها حاليًا، ستُكسبه شعبيّة إضافيّة، وهو يراهن على تغييرات لصالحه أكثر في توازنات ​المجلس النيابي​ المُقبل، علمًا أنّه من المُفترض أن تسبق ​الإنتخابات النيابية​ تلك الرئاسيّة ببضعة أشهر، ما يعني أنّ المجلس الحالي ليس هو من سينتخب الرئيس المُقبل. أكثر من ذلك، إنّ "التيّار" واثق من دعم "حزب الله"–بما يُمثّل، له في الإستحقاقات المُقبلة، كما حصل في الإستحقاقات الماضية، في حين أنّ التجديد التلقائي يُمكن ألاّ يطال موقع رئاسة مجلس النوّاب في المرّة المُقبلة! وليس بسرّ أنّ رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​ الذي يتعايش مع "التيّار الوطني الحُرّ"، كان من المُعارضين بداية لوُصول العماد عون إلى سُدّة الرئاسة، وكان من المُعارضين أخيرًا لإخراج رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من الحُكم، وهو يلعب حاليًا دورًا رئيسًا في الحفاظ على صلات التواصل مع أكثر من فريق مُعارض للتيّار، من "المُستقبل" و"الإشتراكي" وُصولاً إلى "المردة". من جهة أخرى، يُواصل "حزب الله" تركيزه على معاركه الإقليميّة والدَوليّة، حاصرًا إهتمامه الداخلي الحالي بضرورة الحفاظ على الإستقرار، لأنّ دُخول لبنان في أيّ نوع من الفوضى نتيجة الإنهيار الإجتماعي والحياتي والمعيشي، سيُمثّل ضربة قاسية لكل جُهوده الماضية بمُواجهة العُقوبات الأميركيّة والغربيّة عليه. وبالتالي، إنّ "الحزب" يُحاول قدر المُستطاع لجم التوتّرات السياسيّة الداخليّة، ويرفض الدُخول في أيّ معركة سياسيّة قبل أوانها بكثير، كما هي الحال بالنسبة إلى الإنتخابات الرئاسيّة.

في الخُلاصة، يُمكن القول إنّ القوى السياسيّة اللبنانيّة تتصرّف من مُنطلق "كل مين إيدو إلو"، بعيدًا عن أيّ تفاهمات وأيّ جبهات سياسيّة، حيث تُحاول كل جهة إلقاء اللوم على الآخرين بالنسبة إلى الإنهيار الحاصل. والأكيد أنّ القوى السياسيّة–على إختلافها، هي حاليًا في وادٍ، بينما ​الشعب اللبناني​ بأغلبيّته، في وادٍ آخر، حيث أنّ اللبنانيّين في نقمة كاملة على كلّ ما له علاقة ب​السياسة​ وبالسياسيّين، وهم يحصرون إهتماماتهم بالأوضاع الصحّية بسبب وباء ​كورونا​، وبالأوضاع المَعيشيّة والحياتيّة، بعد إنهيار قيمة العملة الوطنيّة وإنتشار ​البطالة​. والهمّ الجامع للبنانيّين حاليًا هو كيف نؤمّن لقمة العيش، وليس كيف نُصفّق لهذا أو ذاك من أعضاء الطبقة السياسيّة التي أثبتت فشلها.