«عند توسع المعرفة تضيق مساحة الأسطورة، عندما تضمر المعرفة تملأ الأساطير الفراغ»

في بحثه العظيم «الكينونة والزمان» يذهب مارتن هيدغر إلى تحليل الكينونة بتاريخانيتها، أي بالموروث الثقافي الكامن في اللغة والتعابير غير الكلامية، التي تصبح كامنة من دون تمحيص في تصرفات وردّات فعل والتطلعات المستقبلية للبشر «المرميين» في ما هم منه في العالم، دون إرادة مسبقة، وفي أكثر الأحيان من دون إرادة لاحقة، في جملة من المفاهيم الراسخة، بغض النظر عن حقيقتها الأصلية.

هي تلك التقاليد غير التاريخية، أي غير ما هو مثبت بالتحليل العلمي التاريخي، هي ما يشكّل الحقيقة الشعبية الرسمية غير القابلة للبحث، لكونها بديهية. وتصل هذه التقاليد في قداستها إلى حدّ التعصّب القاتل لها، أي القتل أو الموت في سبيلها، لكونها تشكّل الأرضية التي يشعر معظم البشر فيها بوجودهم من خلال الجموع، أي كونهم من الجموع، حتى وإن فقد كل فرد منهم قدرته، أو رغبته، في أن يكون فرداً باحثاً عن وجوده الأصيل.

ليست البديهيات في اللغة والتعبير مسألة مرذولة بالمطلق، فليس من المنطقي أن يقوم المرء ببحث «فيلولوجي» في كل كلمة يسمعها، أو قبل أن يقولها، فعندها ستتجمّد دورة الحياة، وتدخل في سلسلة من المراجعات المستمرة التي قد تمنع أي إنجاز. لكن الواقع هو أنّ البشر يقومون بهذا الشيء في كل مرة يحصل إشكال ما، يضع المسار اليومي للأمور في موضع إعادة التفكير، أي التمحيص للبحث عن حلّ الإشكال. لكنه من غير المنطقي أن يقوم البشر أجمعهم بمراجعة دائمة للبديهيات في حياتهم، ومن ضمنها طبعاً تلك التقاليد، حتى وإن بدت هي أحياناً نوعاً من الإعاقة في سبيل تحقيق شيء ما. العبء هنا يبقى على كاهل قلّة نادرة من البشر، ليذهبوا إلى التحليل وإعادة التفكير فيما هو بديهي، فقد يسمح ذلك بعدم تحوّل البديهي إلى مادة للقتل. أذكر أنّ التقاليد الكلامية، ألتي تتحوّل إلى حقائق مقدّسة، تسببت مثلاً بوفاة جدتي لأمي، التي لم يتحمّل قلبها المثقل بالتقاليد، عندما اقتحم نيل أرمسترونغ القمر سنة 1969، مع أنّه مسكن الإمام، عليه السلام. وهذا غيض من فيض بخصوص مسلسلات القتل الذي انتجته التقاليد على مدى العصور.

ما لنا ولكل هذا الحديث، فلم يكن قصدي هنا إضاعة الموضوع في متاهات البحوث الفلسفية، لكنني في كل محطة جهالة كما شهدناها في الأيام الماضية، أتذكر ذاك الباحث الإيراني العظيم، المعلم علي شريعتي، الملهم الحقيقي للثورة على الشاه، قبل أن يتمّ اغتياله بصورة غامضة سنة 1977، ومن ثم تمّ اختطاف الثورة على أيدي من سعى هو أساساً لكف يدهم.

علي شريعتي، خريج جامعة السوربون، أيام كانت الثورة تدور في أروقتها التفكيكية لكل ما هو بديهي. لم يذهب للانعزال عن مجتمعه وثقافته، بل سعى لينطلق منهما للتحليل والبحث عن مخرج من ذاك الدوران في حلقة مفرغة، ما بين طغيان التقليد وطغيان السلطة على رقاب الناس. في كتابه المرجعي «التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي» يمكن الإضاءة على فكر هذا الرجل الكبير.

ما يلي مقتبس من موقع العلاّمة المرجع محمد حسين فضل الله.

ما الذي قصده الدكتور علي شريعتي من إطلاق عبارة التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي؟ ما قصده هو أنّ هناك منهجين في التعاطي مع الإمامة والمسألة المذهبية والدينية عموماً: الأول هو منهج يتعاطى بروح تاريخية وطقوسيّة وفئويّة وما فوق عمليّة، فيركّز كثيراً على صراعات التاريخ المذهبي، ويعيش التاريخ ليفرضه على الحاضر، فتستهلكه الطقوس والمناسبات المذهبيّة، ويحمل روح القطيعة مع الآخر، ويبالغ في الصورة الشكليّة للتشيّع، ويضع كلّ ثقله فيها، ويتعاطى مع المعصومين تعاطياً غيبيّاً في الغالب، فيركّز على خلقهم وأسرارهم ومكانتهم السماويّة، ولا يعيش تفاعلات تجربتهم في الأرض، ويسعى لحصر العمل الديني في الجانب الطقوسي تقريباً وتحرير الإنسان من مسؤوليّاته في الجانب الاجتماعي والسياسي، ويستخدم التقيّة للتحرّر من المسؤوليات الكبرى في الأمّة، ويركّز على الشفاعة والحبّ للتخلّي عن وظائفه الرئيسة. بالنسبة لعلي شريعتي هذا هو نهج التشيّع الصفوي الذي ازدهر مع استخدام الامبراطورية هذا النهج لبث التفرقة لأهداف سياسية صرفة، بهدف المواجهة مع الامبراطورية العثمانية التي كانت في طور التوسع، أيام سليمان القانوني. فكان هذا النوع من التشيّع المبني على السباب والشتائم، أحد وسائل التفريق بين من هم ملتزمون بالعقيدة الصفوية، ومن هم ما زالوا على نهج التشيّع العلوي.

المنهج الثاني، هو ما سعى إليه شريعتي، وهو يتعاطى مع التشيّع من منطلق نهضوي عملي سياسي واجتماعي، فيرى فيه الثورة على الظلم، وفي رفض الانحراف في المجتمع، وفي بناء الأمّة، وفي الاهتمام بمصالح المسلمين، وفي النزاهة والمبدئيّة في ممارسة السلطة أو العمل السياسي والاجتماعي، مقابل المنهج المصلحي والوصولي والنفعي، وفي رفض الطبقيّة والتمييز بين الناس لاعتبارات وهميّة لغويّة أو قوميّة أو عشائريّة أو عرقيّة أو فئويّة، وفي تحقيق العدالة الاجتماعيّة وتداول الثروات الطبيعيّة، لكسر حدّة الفاصلة الطبقيّة بين الناس، وفي مساواة الجميع أمام القانون ونظام القضاء والعقوبات، بما في ذلك الحاكم نفسه، وفي محاربة الإقطاع السياسي والديني. وهذا ما كان يسمّيه شريعتي بالتشيّع العلوي، لأنّ سيرة عليّ عليه السلام تعطي هذه القيم بأجمعها، وعلينا أن ندرس سيرة النبي وأهل بيته من زاوية نهضويّة، يمكنها أن تساعدنا في تنوير طريقنا لبناء أمّة قويّة وعادلة ومقتدرة، وليس لبناء أمّة تلطم نفسها وتذهب بكلّ طاقاتها في المناسبات الدينية والتركيز على البُعد الظاهري للدين أو الاستغراق في الجوانب المافوق واقعيّة ودنيوية.

هذه خلاصة مكثّفة لوجهة نظر شريعتي، وهي بالتالي تشكّل تحدّياً للواقع المعيوش والمستخدم بالإمعان في تأكيد الفرقة على أساس الأساطير. (نهاية الاقتباس)

السؤال المطروح هو، بما أنّ الجميع قد استنكروا ما حصل من حفلة شتائم، وبما انّهم جميعاً واعون لخطورة الوضع، فما المنطق في تجهيل الفاعل، فمن السهل التعرّف الى بعض من قاموا بهذا العمل، عن حسن أو سوء نية، وجرّهم إلى القضاء للمحاسبة؟

لكن الأمر لم يحدث ولن يحدث، فهذه الشعارات بالذات هي جزء من التقاليد التي أصبحت أصيلة من تحديد من هم «نحن» للتفريق عمّن «هم». وهذا أساس الشحن المذهبي الذي يؤدي إلى المزيد من التصلّب السياسي. لذلك فإننا لن نرى أحداً من هؤلاء قيد المحاسبة لأنّه فقط من عدّة الشغل، أي أدوات السعي المحموم نحو السلطة على حساب أمن وأمان الناس.