ما أشبه اليوم بالأمس. على رغم "مأساويّة" الظروف التي فرضها "​زلزال​" ​انفجار​ ​مرفأ بيروت​، وتبعاته "الكارثية" على المستويين الإنسانيّ والأخلاقيّ، قبل السياسيّ والاقتصاديّ، فإنّ نقاط "التقاطع" بين هذه اللحظة، ولحظة ما بعد ​استقالة​ حكومة ​سعد الحريري​ بعيد "انتفاضة" السابع عشر من تشرين، لا تُعَدّ ولا تُحصى.

ليس "ضياع الصورة" وحده ما "يجمع" بين المشهديْن، وهو الذي دفع ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ إلى تكرار "سابقة" إرجاء ​الاستشارات النيابية​، ريثما ينضج "التوافق" على شكل الحكومة المقبلة، وبالتالي على هوية رئيسها، وسط انقسامٍ هائلٍ في النظريات، التي تتداخل مع مصطلحاتٍ تقنيّة، بعضها لا أثر له خارج لبنان.

لكن قبل هذا وذاك، قد يكون "صمت" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، أو ربما "اعتكافه" مجازاً، "الجامع الأكبر" بين المشهديْن، وهو الذي اختار على ما يبدو "المراقبة عن بُعد"، لعلّه ينجح في التقاط الإشارات الداخلية والخارجية التي تسمح له بالعودة، ولو أنّ مستشاريه يكتفون بالقول إنّه "غير معنيّ" بالتحليلات المتداولة، حتى إشعارٍ آخر...

الرهان على الخارج؟!

القول إنّ الحريري "غير معنيّ" بالتحليلات والتفسيرات والتكهّنات لا يعني أنّها غير صحيحة أو دقيقة. لو أنّها لم تكن كذلك، لخرج الرجل، أقلّه في إحدى "دردشاته الإعلاميّة"، التي يبدو أنّه "جمّدها" إلى حين، نافياً وجازماً ومؤكّداً، وهو ما لم يفعله حتى الآن.

لعلّ الحريري ينتظر "اكتمال الصورة" لديه، حتى يبني على الشيء مقتضاه. سبق له أن قال إنّه لن يعود رئيساً للحكومة في ظلّ "العهد" الحاليّ، لكنّ اختلاف الظروف قد يبرّر له "التراجع" إذا ما شعر بوجود "توافقٍ" حوله. كما سبق له كذلك أن تحدّث عن "شروطٍ" للعودة، بعضها "تعجيزي"، وهو "منطقٌ" قد يتمسّك به، مع بعض "الليونة"، التي بدأت إشاراتها تُرسَل بتسريباتٍ من هنا أو هناك أصلاً.

لكنّ رئيس الحكومة السابق لا يريد "توريط" نفسه بأيّ موقفٍ الآن، قد "ينقلب" ضدّه في الأيام المقبلة. في حال تلمّس أنّ فرصه "ضعيفة"، أو أنّ سيناريو "إقصائه" قد يتكرّر، فهو لن يتأخّر في إظهار "مبدئيّته" في المقاربة، من خلال تكرار مواقفه السابقة من عدم رغبته في "التطبيع" مع "العهد"، بعد التجربة "المُرّة" التي قضاها خلال النصف الأول من الولاية "الرئاسيّة". ولكنّه، وحتى إشعارٍ آخر، يريد حفظ "خط الرجعة"، الذي لن يكون "تبريره" صعباً، باعتبار أنّ المرحلة الحالية ما بعد انفجار المرفأ، تتطلب "تنازلات وتضحيات".

وإذا كانت المواقف الأولية المحلية غير مشجّعة، بما فيها كلام رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ الواضح، حول ضرورة أن تتشكّل الحكومة المنتظَرة من "وجوه جديدة ومستقلّة" بالكامل، فإنّ "رهان" الحريري يبقى في مكانٍ آخر، وتحديداً على الخارج، الذي من شأنه تغيير كلّ الصورة لصالحه، علماً أنّ زيارة مساعد ​وزير الخارجية​ الأميركي ​ديفيد هيل​ تشكّل نقطة "مفصليّة" على هذا الصعيد، بانتظار "ضوءٍ أخضر" سعوديّ لم ينضج بعد أيضاً.

"التيار" غير متحمّس!

وبانتظار اكتمال صورة "الخارج" الذي "يراهن" عليه الحريري على ما يبدو، فإنّ المؤشّرات الداخليّة لا توحي، حتى الآن، بتوافقٍ "ورديّ" عليه، بل إنّ "المفارقة" التي تتكرّر على ما يبدو، تكمن في "تمسّك" خصومه في ثنائيّ "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" به، قبل حلفائه وأصدقائه، وعلى رأسهم جعجع، إلى جانب رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ الذي يرفض "الغوص في الأسماء" من الآن.

لكن، في مقابل هؤلاء، فإنّ "​التيار الوطني الحر​" الذي يشكّل "بيضة قبّان" في تسمية رئيس الحكومة، شاء من شاء وأبى من أبى، ليس "متحمّساً" على الإطلاق لعودة الحريري ل​رئاسة الحكومة​، ولعلّه أراد إيصال هذه الرسالة من خلال "تسريبه" قبول اسم السفير ​نواف سلام​ كرئيسٍ للحكومة، على رغم إدراكه وجود "فيتو" على الأخير من جانب حليفه "حزب الله"، وكأنّه يبدي له "امتعاضه" من الإصرار على الحريري.

ومع أنّ رئيس "التيار" ​جبران باسيل​ كان واضحاً بإعلانه أنّه سيكون "أول من يسهّل وأول من يتعاون" في سبيل تشكيل حكومة "منتجة ومثمرة"، كما وصفها، وهو ما تؤكّده أوساطه، التي تشدّد على أنّها لن تعرقل أيّ "توافق"، ولو كان على الحريري، من دون أن تكون "مُلزَمة" بتسميته، أو المشاركة المباشرة في حكومته، فإنّ المحسوبين عليه يرسمون الكثير من علامات الاستفهام حول "جدوى" إعادة "تجربة المجرَّب"، خصوصاً في ظلّ وجود اتفاقٍ ضمنيّ على ضرورة أن تتصدّى الحكومة المقبلة للإصلاحات وأن تحارب ​الفساد​، فعلاً لا قولاً.

ويذكّر هؤلاء كيف أنّ الحريري كان "ينتفض"، حتى إبان حكومة حسّان دياب، كلما شعر بأنّ هناك نيّة لفتح ملفات الفساد التي تطال العديد من "الرموز" المقرّبين منه، متسائلين عمّا إذا كان يمكن لعاقلٍ أن يتصوّر أنّ الحريري يمكن أن "ينقلب" على هؤلاء في حال عودته لرئاسة الحكومة. ويذهب "العونيّون" أبعد من ذلك بالقول إنّ حكومة يرأسها الحريري لن تكون سوى "تكريس" للنماذج الحكوميّة السابقة، والتي يتطلّع ​اللبنانيون​ إلى تغييرها، علماً أنّ هناك بين "العونيّين" من يصرّ على أنّ باسيل لا يريد لهذه الأسباب المشاركة في الحكومة، لا مباشرةً ولا وساطةً، وهو سيفوّض تسمية الوزراء ​الموارنة​ من حصّته إلى رئيس الجمهورية، ولو أنّ كثيرين يعتبرون مثل هذا الأمر "خدعة"، باعتبار أنّ وزراء الرئيس و"التيار" يتبعون للخطّ نفسه في النهاية.

أغرب الغرائب!

ليس المُستغرَب أن تقفز الحسابات السياسية فوق "مجزرة" الرابع من آب، وأن تتجاهل الدماء البريئة التي سالت، وأن يبقى التمسّك بـ"الكرسيّ" لدى جميع الفرقاء، سيّد الموقف، بعيداً عن أيّ تفصيلٍ آخر.

وليس المُستغرَب أيضاً أن يعود الحديث عن "نكايات سياسية"، فيما دماء الأبرياء لم تجفّ بعد، وأن يعود "التراشق" الكلاميّ بين هذا الطرف وذاك، حول هويّة رئيس الحكومة "المُنقِذ"، في ظلّ تباينٍ حول معنى "الإنقاذ" أصلاً.

وليس المُستغرَب أيضاً أن يجاهر بعض السياسيين بـ"الرهان" على الخارج لبلورة استحقاقاتهم، حتى أنّ من تصدّوا سابقاً منعاً لتأجيل الاستشارات النيابية، "يتريّثون" اليوم، بانتظار وصول "كلمة السرّ" الضائعة بين الفرنسيين والأميركيين والخليجيين وغيرهم، ليُبنى على الشيء مقتضاه.

لكنّ الأغرب من كلّ ما سبق، أن يبقى الكثير من اللبنانيّين "مقتنعين" بـ"منطق" طبقةٍ سياسيّة ارتقت في "مآثرها" من الفساد وسوء الإدارة، إلى "الإجرام" الذي تجلّى في أبشع تجلياته في الرابع من آب، قبل أن تعود إلى عاداتها القديمة، وكأنّ شيئاً لم يكُن!.