لم يسبق أن تراكمت الإشارات الدولية الإيجابية المتزامنة مع مسار ملف صناعة الحكومة في لبنان، كما هي عليه الآن. باتت القضية أبعد من تمنيات فرنسية وضعها الرئيس إيمانويل ماكرون في مبادرة خاصة للبنان بعد كارثة إنفجار مرفأ بيروت. يواكب الأميركيون عملية تنفيذ المبادرة، بغض النظر عن تفاصيل لبنانية تتعلق بشكل الحكومة أو التوزيع الوزاري فيها. لا هم عند الفرنسيين ولا الأميركيين إن كان عدد مجلس الوزراء اللبناني ١٤ أو ٢٠ او ٢٤ وزيراً. يبدو أن العواصم إتخذت قرار عدم ترك لبنان يغرق في مستنقع الأزمة المالية. هذا ما إستنتجه كل من التقى الموفد الأميركي ديفيد شينكر، فأبدى الأميركيون هذه المرة رغبة بمؤازرة لبنان. يلتقي هذا التصرف الأميركي مع الكلام الفرنسي الذي يريد الإنطلاق من التزام الحكومة اللبنانية العتيدة بالإصلاح نصاً وعملاً.

لكن، ما هو سر الإندفاعة الدولية لمساعدة لبنان الآن بعد تركه طويلاً، ومعاقبة أفراد ومسؤولين وحزبيين فيه؟.

لا بدّ من رسم مستجدات المشهد الإقليمي: اولاً، حصل وقف لإطلاق النار في العراق بعدما تعرضت القوات الأميركية لهجمات طيلة الأسابيع الماضية.

ثانياً، بدأت إيران بعملية إستعادة أموالها المجمدة في بنوك عراقية بسبب العقوبات الأميركية، مما يعني ان زيارة المسؤول المصرفي الإيراني الأول الى بغداد هو لتدشين مرحلة إيرانية جديدة إنتهت فيها طهران ايضاً من قيود العقوبات على إستيراد الأسلحة.

ثالثاً، الاعلان عن زيارة موفد أميركي الى دمشق لبحث ملف أحد السجناء الأميركيين في العاصمة السورية، بعد قطيعة أميركية طويلة لسوريا، مما يؤكد أن الجمهورية العربية السورية دخلت في مساحات التفاوض مع عواصم القرار الدولي.

رابعاً، حصول عمليات تبادل للأسرى بين اليمنيين والسعوديين وغيرهم، لأول مرة بهذا الحجم.

خامساً، قبول الأميركيين بإطار التفاوض الذي فرضه لبنان بملف ترسيم الحدود، وبدء جلسات التفاوض غير المباشر برعاية الأمم المتحدة وإشراف واشنطن التي باركت هذه الخطوة.

سادساً، مباركة الأميركيين عملياً خطوة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بترشيح نفسه لرئاسة الحكومة، وقيام فرنسا بتذليل العقبات أمام ترشيحه.

سابعاً، سحب السعودية الفيتو الذي كان مرفوعاً أمام الحريري بشأن ترؤسه حكومة لبنانية خلال العهد الرئاسي الحالي، رغم ان الرياض لم تُعط إشارة القبول بخطوته.

ثامناً، نجاح زيارة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الى الولايات المتحدة بكل المقاييس الأمنية والسياسية الاستراتيجية، والرسائل التي حملها بأكثر من إتجاه. وكان مقدراً لإبراهيم متابعة لقاءاته في فرنسا بعد الولايات المتحدة لولا إصابته بفايروس كورونا.

كل هذه المعطيات تشير الى ان هناك حراكاً يجري لنقل الإقليم من واقع الصدام او المراوحة السلبية، إلى مساحة طرح مشاريع الحلول والتسويات، فهل يقطف لبنان ثمار اللحظة المؤاتية من خلال تأليف حكومة وإعادة ترميم النظم الإقتصادية والمالية المنهارة في البلد؟.

ظهر إعتراض التيار "الوطني الحر" وحزب "القوات" على سيناريو تكليف الحريري، لحسابات تختلف بينهما في شكلها وتلتقي عند مضمون أساسي. ليست المسألة قضية اتصال بين الحريري ورئيس "الوطني الحر" جبران باسيل، ولا هي تواصل مطلوب بين معراب وبيت الوسط. ولا القصة تتعلق حصراً بتوزيع الحقائب الوزارية التي ستدور بمعظمها على القوى ضمن خلطة مرتقبة. ولا المسألة تتعلق برئيس سياسي لحكومة تكنوقراط أو تكنوسياسية. كلها عناوين تُطرح إعلامياً. لكن يُقال هنا أن المضمون هو: من سيؤيد الحريري لاحقاً لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون؟ يتردد بين الأوساط السياسية ان التقارب بين الحريري ورئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية هو الذي يسبب التباعد الجوهري بين بيت الوسط وكلٍ من معراب و ميرنا الشالوحي.

لا يبدو ان الحريري في وارد اعادة تكرار التسوية مع عون-باسيل التي ساهمت في انتخاب "الجنرال" رئيساً للجمهورية. هو نادم على تلك التسوية الرئاسية.

سواء صحّت تلك الفرضية، او لم تصح، فإن المخاوف اللبنانية هي ان يكرّر "الوطني الحر" و"القوات" ما سبق وحصل بعد إتفاق الطائف. يوم كانت عواصم العالم ترعى اتفاقاً بشأن لبنان دفعت ثمنه القوى المسيحية الأساسية التي قاطعت الإنتخابات يومها. فهل يدفع المسيحيون الآن "ثمن الحسابات البرتقالية والقواتية الخاطئة"؟. فلنسأل نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي كي يجيب على تجربتين سابقة وحالية قبل فوات الآوان، لأن لا مصلحة لأي مكون لبناني بأن يكون الفريقين المسيحيين الأساسيين خارج أي مرحلة سياسية، لكن وجود عون على رأس الدولة يخفّف من تداعيات سحب باسيل وجعجع نفسيهما من المشهد السلطوي وتقليد رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل.