منذ أصيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفيروس كورونا، وأرجأ زيارته التي كانت مفترَضة إلى لبنان في كانون الأول الماضي، غاب الملفّ اللبنانيّ بالكامل عن "الأجندة" الفرنسيّة، بل فقد أيّ "أثرٍ" يُذكَر في سلّم الأولويات الفرنسيّة، بعدما أضحى خلال فترةٍ من الفترات، إلى "الشغل الشاغل" لماكرون والمحيطين به.

ولأنّ "تغييب" الملفّ اللبناني عن صُنّاع القرار في فرنسا، تزامن مع "فوضى عارمة" في لبنان على خطّ تأليف الحكومة، وسط أزماتٍ متشعّبة ومتفاقمة لا تنتهي، بدت الساحة "مفتوحة" أمام التكهّنات، التي تقاطعت بمجملها، على أنّ المبادرة الفرنسيّة أصبحت في "خبر كان"، وأنّ البحث جارٍ على من يمتلك الجرأة لنعيها صراحةً وعلنًا.

إلا أنّ تغييرًا رُصِد من جديد هذا الأسبوع، مع عودة اسم لبنان ليُسمَع صداه في الأروقة الفرنسيّة، حيث حضر، أقلّه وفق بيان الإليزيه، خلال الاتصال الهاتفي الأول بين ماكرون ونظيره الأميركي جو بايدن، قبل أن يبرز من جديد في الاتصال الهاتفي الأول بين وزير الخارجية الفرنسي ​جان إيف لودريان​ ونظيره الأميركي ​أنتوني بلينكن​.

وسط ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام، فهل كان الفرنسيّ يضبط ساعته على التوقيت الأميركيّ، بدليل إعادة إحياء مبادرته بعد وصول بايدن إلى ​البيت الأبيض​؟ وهل يعني ذلك أنّ موعد زيارة ماكرون المؤجّلة اقترب، وأنّه سيحطّ في ​بيروت​ قريبًا، مبشّرًا بالفرج الحكوميّ الموعود؟!.

رسائل إيجابيّة

في المبدأ، وإذا أراد ​اللبنانيون​ التمسّك بـ"النصف المليء من الكوب"، لا بدّ من تلقّف الرسائل الفرنسيّة، ولو كانت خجولة، بإيجابيّة، باعتبار أنّ مجرّد الحديث عن لبنان مجدَّدًا، بعد فترةٍ من الانقطاع، يمكن أن يُفسَّر سياسيًّا، على أنّه "إحياءٌ" للدور الفرنسيّ، أو بالحدّ الأدنى، دحضٌ لفرضيّة انكفائه، أو التخلّي الكامل عن لبنان.

ولا يبدو تفصيلاً في هذا السياق أن يحضر لبنان على طاولة البحث في أول تواصلٍ مباشرٍ بين ماكرون وبايدن، جنبًا إلى جنب ملفّاتٍ أساسيّةٍ كبرى، كالاتفاق النووي الإيراني، ومخاطر فيروس كورونا، وملفّ المناخ، ولو أنّ البعض توقّف عند "مفارقة" غياب هذا "التفصيل" عن بيان البيت الأبيض حول الاتصال، ما يعني أنّه حضر "عرضيًا"، في أحسن الأحوال.

لكن، بمُعزَلٍ عن هذا التفصيل، يقول "المتفائلون" إنّه يكفي أن يتحدّث الفرنسيّون عن الملفّ اللبنانيّ، للإيحاء بحركةٍ على خطّه، ولو اقتصرت حتى الآن على الأقوال دون الأفعال، علمًا أنّ تكرار الأمر، خلال اتصال وزيري الخارجية الفرنسي والأميركي، دليلٌ دامغٌ آخر على أنّ هناك "جدّية" في التعاطي الفرنسيّ مع لبنان، وأنّ الأمر لم يكن "على الهامش"، أو سقط "سهوًا" ضمن جملة الملفّات المعروضة.

وانطلاقًا من كلّ ما سبق، هناك من قرأ في إعلان الإليزيه هذا، "البيان الرقم واحد" حول عودة فرنسا إلى المنطقة، من البوابة اللبنانيّة، وبضوءٍ أخضر من ​الإدارة الأميركية​ الجديدة، قد يكون غاب عنها خلال عهد الرئيس السابق ​دونالد ترامب​، بدليل أنّ كثيرين يحمّلون إدارة الأخير مسؤولية "تعطيل" المبادرة الفرنسيّة، والتشويش عليها، من خلال فرض عقوباتٍ على بعض الشخصيات اللبنانية تارةً، و"ترهيب" آخرين بالمصير نفسه تارةً أخرى، الأمر الذي "جمّد" تأليف الحكومة بالمُطلَق.

"غير واردة"

لكن، بقدر ما يجب التمسّك بـ"النصف المليء من الكوب"، لا ينبغي في المقابل، إغفال "القسم الفارغ"، والذي قد يطغى على الأول في هذه الحالة، لأنّ كلّ المعطيات تشي بأنّ الانفتاح الفرنسيّ المرصود على لبنان، لا يرتقي، أقلّه حتى إثبات العكس، لحراكٍ فعليّ وحقيقيّ، أو حتى لإنعاش المبادرة السابقة، والضغط على المعنيّين لاستكمال العمل بمقتضياتها.

ويشير العارفون في هذا السياق، إلى أنّ أيّ زيارةٍ لماكرون غير "مجدولة" إلى لبنان في الوقت الحاليّ، بل إنّها غير واردة في المدى المنظور بأيّ شكلٍ من الأشكال، لاعتباراتٍ كثيرة، أهمّها داخليّ، مرتبط بالوضع الفرنسيّ الداخليّ، الذي لا يتيح لماكرون الانكباب على ملفّاتٍ خارجيّة، كما فعل بعيد انفجار المرفأ، فضلاً عن مقتضيات تفشّي فيروس كورونا، في فرنسا كما في لبنان، والإغلاق المفروض في الدولتيْن بسببه.

أما السبب الثاني لاستبعاد مثل هذا المُعطى، فيستند إلى أنّ الفرنسيّين لن يجازفوا مجدّدًا بالإبحار في "عمق" الملفّ اللبناني، بعد "الخيبة" التي اصطدموا بها قبل أسابيع، حين وجدوا أنّ اللبنانيين لن يقدّموا لهم "شيكًا على بياض" لتحقيق "إنجازٍ" يعبرون من خلاله إلى "عمق" ملفات المنطقة، ولذلك، فهم يتمسّكون اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بالشعار الشهير الذي أطلقوه عنوانًا على مبادرتهم، أي "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"، ما يعني أنّ الكرة لا تزال في ملعب اللبنانيّين، الذين سيكون عليهم إنجاز الشق المتعلق بهم قبل انتظار أيّ معونة خارجيّة.

وإذا كان البعض يراهن على أنّ أحداث طرابلس التي بدأت بالخروج عن السيطرة خلال اليومين الماضييْن، قد تلعب دورًا في إعادة "العين الدولية" إلى لبنان، خشية وقوع الأسوأ، إذا ما بقيت الأمور على تفلّتها، خصوصًا في ظلّ وجود "توافق ضمنيّ" بين الدول الغربيّة على وجوب الحفاظ على "الاستقرار" في لبنان، ولو بالحدّ الأدنى، فإنّ ذلك لا يغيّر، وفق المنطق الفرنسي، في قاعدة أنّ أساس "الإنقاذ" يبقى داخليًا، عبر تأليف حكومة تباشر سريعًا بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وإن كان بعضها قد تأخّر كثيرًا.

رهان "خائب"!

يبدو أكثر من "نافر" هذا الرهان المُبالَغ به على الفرنسيّين أو غيرهم، لدرجة أنّ اللبنانيّين باتوا يتعلّقون بـ"قشور"، على طريقة ورود كلمة في اتصال هاتفي بين ماكرون وبايدن، للاطمئنان إلى أنّهم لم يخرجوا من "لعبة الأمم"، وما زال هناك من يفكّر بهم.

إنه "الرهان" نفسه الذي كان قبل أسابيع يتمحور حول تاريخ 20 كانون الثاني، حتى خُيّل لكثيرين أنّ أول أمرٍ تنفيذيّ سيوقعه بايدن بمجرّد دخوله البيت الأبيض لن يكون سوى مراسيم تشكيل الحكومة اللبنانية التي كانت تنتظر "مباركته".

وليس خافيًا على أحد أنّ هذا "الرهان" هو الذي يطبع كلّ الاستحقاقات اللبنانيّة، حتى أنّ هناك من يجزم أنّ اللقاء "المستحيل" اليوم بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، سيصبح "بديهيًّا"، بمجرّد وصول اتصالٍ من خلف البحار يطلب حصوله.

بيد أنّ "المصيبة الكبرى" تبقى إذا ما سحبت الدول الكبرى يدها من لبنان، كما هو حاصلٌ اليوم ولو بشكلٍ نسبيّ، فتسود الفوضى، وربما شريعة الغاب، وتغيب أيّ مقاربة مسؤولة، أقلّه بانتظار أمر عمليّات خارجيّ جديد...