لم يكن الكثير يُرتَجى من اللقاء الثامن عشر بين رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ورئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​، رغم الإيجابية "الوهميّة" التي غُلِّف بها، لغايةٍ في نفس يعقوب، أو بعض العاملين على خطّ ​تأليف الحكومة​، إن وُجِدوا.

كان الأمل بأن يتصاعد "الدخان الأبيض" من اللقاء ضعيفًا، أو حتّى أن ينجح في تحقيق "خرق" يمكن أن يُبنى عليه في القادم من الأيام، لكنّ أقصى المتشائمين لم يكن يتوقع أن يفضي إلى "السوداويّة" التي انتهى إليها، وبالشكل الذي حصل.

لعلّ وجه الحريري "المتجهّم" بعد اللقاء، يحكي الكثير، معطوفًا على النبرة "العالية" التي لجأ إليها، وهو يتحدّث إلى الصحافيّين، ويبلغهم بقراره "كشف" المراسلات بينه وبين رئيس الجمهورية، في "سابقةٍ" من نوعها، شكلاً ومضمونًا.

ثمّة من خلُص بعد اللقاء وما أفرزه من إشكاليّاتٍ جديدة، إلى معادلةٍ يبدو أنّها دخلت حيّز التنفيذ، بعنوان "التعايش المستحيل"، من وحي "الإبراء المستحيل"، الذي طبع العلاقة لفترة طويلة بين "​التيار الوطني الحر​" و"​تيار المستقبل​"، قبل انطلاقة "العهد" الحاليّ.

لكن، كما استطاع "الإبراء" أن يخرج من دائرة "المستحيل" في مرحلةٍ من المراحل، وتحديدًا في فترة "​التسوية الرئاسية​"، ثمّة من يتأمّل بأنّ الأمر نفسه سيسري على العلاقة "الحكوميّة" بين عون والحريري، وإن كانت المؤشرات لا توحي بذلك، حتى الآن على الأقلّ...

اتهامات متبادلة... ولا أفق!

حُكي الكثير، خلال اليومين الماضيين، عن الظروف التي أفضت إلى "الطلاق" بين عون والحريري في لقائهما الثامن عشر، وعن "الاستفزازات" التي تبادلها الرجلان، في معرض تسجيل النقاط، من كلٍّ منهما في وجه الآخر.

لعلّ المفارقة، على خطّ كلّ ما أثير في هذا الصدد، أنّه لم يقتصر هذه المرّة، على التسريبات الإعلاميّة التي يمكن التنكّر لها، والتنصّل منها، بل أقحِمت الدوائر الرسميّة بها، حيث انخرط مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية، كما المكتب الإعلاميّ للحريري، في "الحرب الطاحنة" بصورةٍ مباشرة، بل وصل بهما الأمر إلى حدّ كشف أوراقهما ومراسلاتهما إلى العَلَن.

بالنسبة إلى كلٍّ منهما، فإنّ ما أقدم عليه يُعتبَر مشروعًا، بل يندرج في خانة "ردّ الفعل"، فالمحسوبون على رئيس الجمهورية يعتبرون أنّ الحريري ارتكب "خطيئة" بتصعيده غير المبرَّر، من على منبر بعبدا، وصولاً إلى كشف تشكيلة حكوميّة تجاوزتها النقاشات، في محاولةٍ لـ"تكذيب" فريق الرئيس، عبر الإيحاء بأنّ الأخير ينكر تلقّيه أيّ تشكيلة من الأساس.

ويعتبر المقرّبون من الرئيس أنّ الحريري ذهب بعيدًا في "معركته" باتهامه رئيس الجمهورية بالتعدّي على صلاحيّاته، ونقل الأزمة من أزمة "شراكة" حقيقية وفعليّة، إلى معركة "مذهبية طائفية" لا تخدم أحدًا، عبر القول إنّ الرئيس يريد تشكيل الحكومة نيابةً عن رئيس الحكومة المكلَّف، يما ينافي الواقع ويجافي المنطق إلى حدّ بعيد، علمًا أنّ الحريري هو من "يعتدي" على الصلاحيات بإصراره على تسمية الوزراء المسيحيين، دون غيرهم، وفق أصحاب هذا الرأي.

ويعتبر هؤلاء أنّ الأزمة برمّتها "افتعلها" الحريري، ليبرّر بكلّ بساطة "تقاعسه" عن أداء واجبه، والانسجام مع دعوة رئيس الجمهورية له إلى تأليف الحكومة سريعًا، أو الاعتذار لإفساح المجال أمام من يستطيع إنجاز المهمّة، وذلك لأنّه يريد "احتجاز" ورقة التكليف في جيبه، حتى تأتيه "المباركة" الخارجيّة، ولا سيّما الإقليميّة، للمضيّ في التأليف، وهو يبدو "مُكبَّلًا" بانتظارها، ويحاول "رمي الكرة" في ملعب الآخرين، و"تبرئة" نفسه من التأخير والمماطلة.

التصلّب مستمرّ...

لكن، في مقابل وجهة النظر الرئاسيّة، ثمّة رأي آخر يعبّر عنه المحسوبون على الحريري والمؤيّدون له، والذين يعتبرون أنّ رئيس الجمهورية، ومن خلفه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​، هو الذي "يحركش"، ولا يسعى لتأليف حكومة بقدر ما يعمل بكلّ ما أوتي من قوة لدفع الحريري دفعًا نحو الاعتذار.

برأي هؤلاء، لا تفسير آخر لكمّ "السوابق" التي كرّسها رئيس الجمهورية في التعاطي مع رئيس الحكومة المكلَّف، والتي تنطوي بمجملها على "إهانات" له، كما حدث في "المراسلة" الأخيرة، التي توجّهت إليه بصفة "حضرة رئيس الحكومة السابق" بدل "دولة رئيس الحكومة المكلَّف"، مع تكليفه بـ"وظيفة" تعبئة الفراغات في الاستمارة، أو ما سمّاها الرئيس نفسه بـ"الورقة المنهجيّة"، وكأنّ الحريري تلميذٌ يفترض به أن يحلّ واجبًا مدرسيًا.

ويشير "الحريريّون" إلى أنّ المسألة برمّتها تصبح أكثر وضوحًا عندما توضَع في سياقها، علمًا أنّ "السوابق الرئاسية" ليست بنت ساعتها، بل بدأت منذ ما قبل تكليف الحريري، حين حاول رئيس الجمهورية تأجيل الاستشارات أكثر من مرّة بعدما استشعر نيّة الأغلبية النيابية تسمية الحريري، قبل أن يختار مخاطبة النواب مباشرةً، وحضّهم على عدم ارتكاب "خطيئة" التسمية، في بادرةٍ لم يسبقه أيّ رئيس جمهورية سابق عليها.

وبين هذا الرأي وذاك، وفي ضوء المعركة "الطاحنة" المستمرّة بين الجانبين، ثمّة من يعتقد أنّ لا حلّ في الأفق، سوى بالعمل بالمعادلة "التعجيزية" التي قرئت من خلف سطور بيانات الرجلين الأسبوع الماضي، وقوامها "الاعتذار أو الاستقالة"، بمعنى أن يعتذر رئيس الحكومة المكلّف، ليتمّ تكليف غيره، وإما يستقيل رئيس الجمهورية، مفسحًا في المجال أمام انتخابات رئاسية جديدة، تعيد بلورة الخريطة السياسية بالمُطلَق.

ومع إدراك الفارق الجوهري بين الأمرين، وعدم جواز المقارنة بينهما، يجزم العارفون بأنّ أيًا من السيناريوهين لن يتحقّق، وأنّ "التصلّب" سيبقى مستمرًّا حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، أو تنضج الوساطات الخارجية والإقليمية، فيفرض ​المجتمع الدولي​ حلّاً يحوّل "المستحيل" إلى "ممكن"، بل ربما "محبَّذ ومُبارَك"، وللبنانيين تجارب كثيرة من هذا النوع، حيث كانت "عصا" الخارج قادرة على إنهاء أزمات بين ليلة وضُحاها.

"مجرمون" بحقّ أنفسهم!

لعلّ المشكلة الكبرى التي تحول دون هذا "السيناريو"، أنّ الخارج ليس مهتمًّا ببساطة بلبنان، وهو لا يعطيه أولويته، بعيدًا عن بعض الشعارات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وفي ظلّ الإصرار على أنّ الكرة في الملعب اللبنانيّ.

هكذا انكفأت مثلاً المبادرة الفرنسية، ولم يعد يُرصَد لها أثر، بعيدًا عن تصريحاتٍ للرئيس ​إيمانويل ماكرون​ ووزير خارجيته ​جان إيف لودريان​ تصدح بين الفينة والأخرى، كما حصل في الأيام الماضية، حين لوّح ماكرون بنهجٍ جديد، وحذّر لودريان من انهيار محتّم.

وهكذا أيضًا، يواصل العرب "تجاهلهم" للبنان، بعيدًا عن بياناتٍ لا تقدّم ولا تؤخّر، كذلك الذي صدر عن ​جامعة الدول العربية​ قبل يومين، في حين تنهمك العواصم الإقليمية المحورية بقضايا اليمن وليبيا وغيرها، ولا يبدو أنّ لديها وقتًا لتضيّعه على اللبنانيّين.

لا يُلام الخارج، فهو يرى أنّ اللبنانيّين "مجرمون" بحقّ أنفسهم، هم الذين لا يجدون حَرَجًا في "إلهاء" شعبهم بسجالاتٍ دونكيشوتيّة سطحيّة، فيما المآسي لا تتوقف، والدولار يحلّق، وكلّ ذلك لا يعني شيء، طالما أنّ لـ"الزعيم" رأيًا آخر!