تَسبِقُ حادثةَ شِفاءِ يَسوعَ لِمُخلَّعِ بِرْكَةِ «بَيْتِ حِسْدَا» في أورشليم، كما رَواهَا الإنجيليُّ يُوحنّا اللاهوتيّ، أربعةُ إصحاحات.

الأوَّلُ يُخبِرُنا أنَّ الكَلِمَةَ صارَ جَسَدًا، أي أنَّ اللهَ أصبحَ إنسانًا لِخَلاصِنا، ونَقرأُ في الثّاني تَحويلَ الماءِ إلى خَمرٍ في عُرسِ قانا الجَليل، وهي صورةٌ مُسبَقَةٌ عنِ الخَمرِ الشّافي والمُطَهِّرِ لِخَطايانا أي دمِ المَسيح، والثَّالثُ يَدعُونا الرَّبُّ فيهِ إلى وِلادَةٍ جَديدةٍ بِالماءِ والرُّوحِ مِن خِلالِ حَديثِهِ مَعَ نِيقُوديموس، مُؤَكِّدًا لنا أنَّهُ ابنُ الإنسانِ الّذي أتى ليَفدِيَنا على الصَّليبِ، وفي الرَّابِعِ يُذهِلُنا لِقاءُ الرَّبِّ بِالمَرأةِ السَّامِريَّةِ، لِيَكونَ حِوارٌ مَليءٌ بِالمَحبَّةِ رائعًا ، فيتَفجَّرُ مِن قَلبِ هَذهِ المَرأةِ مياهًا للبِشارَةِ والفَرَحِ لِكُلِّ أهلِ مِنطَقَتِها، تارِكَةً خَلفَها جَرَّتَها القَدِيمَةَ ومُسرِعةً إلى المَلَكُوت.

هذهِ الإصحَاحاتُ الأربَعةُ تُوضِحُ لنا أنَّ مَن أتى إلى البِركَةِ حَيثُ كانَ المُخَلَّعُ مَرمِيًّا مُنْذُ ثَمَانٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، ولا يُنزِلُهُ أحدٌ إليها لِيُشفى عِندما يُحَرِّكُ ملاكٌ مِياهَهَا، لأَنَّ مَلاَكًا كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَانًا فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلًا بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ.

فقد أتى يَسوعُ لِيُحرِّكَ المَريضَ المُخَلَّعَ بِالكامِل، ويشفيَهُ فيَحمِلُ المريضُ سريرَهُ ويمشي.

يَضعُ المُخلَّعُ أمامَنا مَرضًا كبيرًا أخطَرَ بِأشواطٍ مِنَ المَرضِ الجَسديّ الذي قد يُصيبُ الإنسانَ، هذا المرضُ الخطيرُ هُو عَدمُ التآزُر. يقولُ السياسيُّ الفرنسيّ الشّهيرُ Olivier Guichard، والذي كانَ يَنتَمي لِتيّارِ الجِنرالِ الكَبيرِ المُثقَّفِ جدًّا "​شارل ديغول​"، المُجتمعَ المُوَحَّدَ ليس ذاكَ الخاليَ مِن الاختِلافاتِ والفُروقَات، إنّما هو الخالي منَ الحواجزِ الدّاخِليَّة("Une société unie n'est pas une société sans différences, mais une société sans frontières intérieures").

جميلٌ جدًّا هذا القَول، وإن طَبّقناهُ في حَياتِنا كمُؤمِنينَ، ندخُلُ إلى عُمقِ أعماقِنا، ونُزيلُ كلَّ الحَواجِزِ الّتي تَفصِلُ بعضَنا عن البَعضِ الآخَر. ولكي يَتِمَّ ذلكَ، علينا إزالَةُ الحَواجِزِ الّتي تُقطِّعُنا إرْبًا إرْبًا مِنَ الدّاخلِ، وتمنعُنا من أن نكونَ مُتصالِحينَ معَ أنفُسِنا، وهذا ما يَدفَعُنا إلى التَّسلُّطِ على الآخَر. والشِّفاءُ لا يمكِنُ أن يَحصُلَ إن لم يَدخُلْ يَسوعُ نَفسَنا المُخَلَّعةَ بِالأهواءِ المَعيبَةِ والخَطايا الّتي نَرفُضُ البَوحَ بِها.

كانَت عَينا المُخلَّعِ تُعايِنان حالَاتِ الشِّفاءِ لِمَن يَنزِلُ أوّلًا في مِياهِ البِركَةِ، كما يُخبِرُنا إنجِيلُ هَذا الأَحدِ(يوحنا ١:٥-١٥)، والمُخلَّعُ على حالِهِ يَومًا بعدَ يَومٍ، وأسبُوعًا بعدَ أُسبُوعٍ، وشَهرًا بعدَ شهرٍ، وسَنةً بعدَ سَنَة.

هُوَ يَسمعُ صَرخةَ فَرَحِ الّذي شُفِيَ، بينما هو لا يقدِرُ أن يَصرُخَها. يرى آخرَ يستطيع تحريكَ أعضائهِ، بينَما هُو يُعاني من أعضائِهِ اليابِسة.

الغريبُ أنَّه لم يوجَدْ شخصٌ واحدٌ طِوالَ هذِهِ السّنينَ يَتحَنَّنُ عليهِ، ويُقَدِّمُ لهُ يدَ المُساعَدَةِ، ويَرميهِ في البِركَةِ لِيُشفى؟.

إنَّها صُورةُ المُجتَمَعِ المُفكَّكِ والمَائِتِ، المُجتَمَعِ الّذي فَقَدَ الحِسَّ. حتّى أنَّ رِجالَ الدّينِ اليَهُودِ والمُؤتَمَنِينَ على تَطبِيقِ كَلِمَةِ اللهِ وتَعليمِها، عِوضَ أن يَفرَحُوا بِشِفاءِ يَسوعَ للمُخَلَّعِ، أخذُوا على الرَّبِّ أنَّهُ شَفى المَريضَ في يَومِ سَبت. ما هَذِهِ الخَطيئَةُ العَظِيمَة! وكأنَّ السَّبتَ أهمُّ مِنَ الإنسانِ، والحَرفَ أهمُّ مِنَ الرُّوح!.

لم يُغِظْهُم سوءُ فَهمِهِم لِمَفهُومِ السَّبتِ، بل أغاظَهُم فَيضُ المَحَبَّةِ الّتي ظَهَرت في تَحَنُّنِ المُخَلِّصِ على المُخَلَّعِ، والّتي كشَفَت يَباسَ قُلوبِهم.

ما أتعسَ المُجتمعَاتِ الّتي يُصبِحُ قَلبُها يابِسًا وجَافًّا "Cœur aride"، وتنطَفِئُ قنادِيلُها لأنَّها لا تُمَجِّدُ الّا ذاتَها.

يَسوعُ ثَورةٌ على كُلِّ الأُمورِ المُعوَجّة.

يَسوعُ ثَورةٌ على الأنانيَّةِ لِتَحُلَّ مكانَها المُؤازَرَة.

يَسوعُ ثَورةٌ على التَّحجُّرِ لِتأتِيَ الرَّحمَة.

يَسوعُ ثَورةٌ على البَاطِلِ ليُعلِنَ الحَقَّ.

يَسوعُ ثَورةٌ على التَّسلُّطِ لِتَرتَفِعَ المَحبَّة.

يسوعُ ثَورةٌ على المَصالِحِ الشَّخصِيَّةِ لِيَنمُوَ مُجتَمَعُ المَلكُوت.

نَحنُ مَدعُوونَ إلى بِناءِ مُجتَمعِ التّآخِي، لا فقط مَعَ الّذينَ هُنا على الأرضِ، بل مَعَ الّذينَ أصبَحُوا مُواطِني السَّماء. وهذا ما كَتَبَهُ بُولُسُ الرَّسولُ إلى أهلِ أفَسُس:"فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلًا، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ"(أفسس ١٩:٢).

فالإصحاحُ الثَّاني مِن هَذِهِ الرِّسالَةِ يُشَكِّلُ دُستُورًا، لو عَمِلْنا بِهِ لَحَلَّ السَّلامُ في المَسكُونَةِ جَمعَاء، ولأدْرَكْنا أنَّنا "بناءٌ مُرَكَّبٌ مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلًا مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ"(أفسس ٢١:٢).

أسوأ ما يُمكِنُ أن يَبلُغَهُ الفَردُ والمُجتَمَعُ هُوَ التآلُفُ مَعَ الخَطأ، والبَحثُ عن تَبريرَاتٍ، عِندَها يَتحَقَّقُ قَولُ المَزمورِ ١٤١، الذي نُنشِدُه في صَلاةِ الغُروب "ونَتعَلَّلُ بِعِلَلِ الخَطايا".

كُلُّنا مُخَلَّعُونَ وبِحَاجَةٍ لِشِفاءِ المَسيح.

ألا ألغَينَا المَسافَاتِ بَينَ القُلوبِ، وشابَكْنا الأيدي بِقُوّةِ مَحبَّةِ اللهِ لنا، وقَفزنا في بِركَةِ "بَيتِ الرَّحمَة" الإلهيَّةِ، وهو معنى كلمة «بَيْتُ حِسْدَا»، فنُشفى ولا نَبقى مُخَلَّعِينَ، ولا يكونُ بينَنا، فيما بعدُ، مُخلَّعٌ لا يوجَدُ مَن يُنهِضُه.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.