لم نوافق على توصيف البعض للأزمة ال​لبنان​ية القائمة راهناً بأنها أزمة داخلية محضة، وأنّ أسبابها كلها وعلى الإطلاق وبنسبة 100% داخلية، وإذا كان هذا البعض أو غيره يريد أن يهوّن المسألة ويجعلها منتجاً محلياً حتى يثبت استقلالية ما أو يوحي بسهولة الحلّ فإننا نرى وبشكل موضوعي أنّ العلاج الصحيح الشافي يبدأ بالتشخيص السليم الناجح وعبثاً تبحث عن شفاء بدواء لا يعالج المرض الذي لم يحدّده بدقة في مرحلة التشخيص.

ونحن لا ننكر دور العوامل الداخلية في صنع المأساة وإنتاج الانهيار الذي نتخبّط فيه، إلا أننا لا نحصر هذا الانهيار بتلك العوامل التي ينبغي التذكير بأنها ملازمة للوجود اللبناني السياسي الحديث منذ وجد، لا بل إننا نقول أكثر بأنّ مَن صاغ نظام لبنان السياسيّ شاء أن يزرع فيه بذوراً تمنعه من الوصول إلى بناء ​الدولة​ الوطنية القوية المستقلة دولة المواطن المكتفي الذي يطمئن إلى غده ويشعر بالمساواة مع شريكه في الوطن ويكون تحت القانون أسوة بالجميع.

وعليه نؤكد مرة أخرى أنّ لبنان الذي بقي إلى حدّ ما بمنأى عن لهيب ما أسمي زوراً «ربيعاً عربياً» رغم ما طاله من شرر و​حرائق​ عند الحدود الشرقية وفي ​طرابلس​، فإنه كان ضحية حرب أخرى نفذت بخطة جهنميّة وضعت بقرار أميركي ونفذت بأيدٍ لبنانية وللأسف، خطة رمت إلى انهياره من أجل أن يتمكن المعتدي من الانقضاض على ​المقاومة​ وشطبها من لبنان لقطع ذراع قوي فاعل من أذرع محور المقاومة الذي استعصى عليهم في الحرب الكونية التي شنّت على سورية طيلة عقد كامل وفشلت في ​تحقيق​ أهدافها.

وبالتالي إنّ الحرب على لبنان الآن هي جزء من حرائق «الربيع العربي المزعوم» ولكن بصيغة ومنهج ووسائل مختلفة، لكن مفاعيلها وتأثيرها لا تقلّ خطراً عن حروب النار والقتل والدمار والتهجير التي طالت بلداناً سبقت نار «الربيع العربي» الملفق اليها ك​ليبيا​ و​اليمن​ وسورية إلخ …

ولأنّ الوضع كذلك كان المنطق السليم يفرض أن يضع لبنان خطة دفاع تتناسب وطبيعة العدوان عليه المنفذ بالخطة تلك (خطة بومبيو) التي أطلقت ضدّ لبنان منذ آذار 2019 ولا تزال قيد العمل. لكن الذي حصل كان عكس المنطق الوطني السليم هذا حيث تمّ تنفيذ الخطة بأيد لبنانية كما يلي:

1 ـ ف​اللبنانيون​ هم من نفذ البند الأول من الخطة المعنون بعنوان «إحداث ​الفراغ السياسي​» حيث أقدم ​سعد الحريري​ في حكومته على إخراج الناس إلى الشوارع احتجاجاً على ضريبة الـ 6 سنت على الواتس أب، ثم أقدم على الاستقالة بعد ذلك وامتنع مع حلفاء له عن المشاركة في الحكم ولما عُيّن البديل تمّت مقاطعته وحُمِل على الاستقالة، ثم عرقلت ولا زالت عملية ​تشكيل الحكومة​ منذ 10 أشهر ولا يبدو أنّ التشكيل ممكن في ​المستقبل​ القريب لأنّ القرار بالفراغ السياسي لا يزال نافذاً ومن اتخذ القرار لن يراجعه قبل آب المقبل، كما يبدو.

2 ـ واللبنانيون هم مَن تسبّب بالانهيار النقدي عبر ال​سياسة​ التي اعتمدها حاكم ​مصرف لبنان​ وسلوكيات ​وزارة المال​ و​الحكومة اللبنانية​ مجتمعة، وهم مَن هرّب الأموال إلى الخارج حتى أفرغت صناديق الأموال من محتوياتها من العملة الصعبة وابتلعت وجففت ودائع الناس بعد أن هرّب العظيم الأكبر من الأموال إلى الخارج (تهريب ما يزيد عن 15 ملياراً في أقلّ من 6 أشهر) ومسؤولون لبنانيون هم مَن يحتال ويتآمر مع حاكم مصرف لبنان ليمنع التدقيق الجنائيّ وليمنع فتح كوة في الجدار المانع للإصلاح ووقف الانهيار المالي.

3 ـ واللبنانيّون هم مَن تسبّب وأنتج الانهيار الاقتصادي وهو الركن الثالث بعد الفراغ السياسي والانهيار النقدي من أركان الخطة، وهم مَن استغلّ الانهيار النقدي وتبخر القيمة الشرائية للعملة اللبنانية واستغلوا سياسة الدعم المحدود للسلع وأقدموا على التهريب والاحتكار وتجويع الناس وتحقيق الأهداف التي رمت اليها خطة بومبيو الخبيثة.

4 ـ والآن يخشى من أن تدفع الأمور إلى تنفيذ البند الرابع من تلك الخطة وهو الانهيار الأمني، وهو ما ترمي اليه الخطة وترى فيه المدخل المناسب لمحاصرة لبنان وإسقاط مقاومته معه، هذا الانهيار الذي فشل لبنانيون بتنفيذه حتى الآن رغم محاولات متعددة قاموا بها وفشلهم أو تخلفهم عن التنفيذ لم يكن لوعي أو يقظة وطنية لدى من كلّف بالتنفيذ بل كان لعجز أو خشية من تدحرج الأمور في غير ما يشتهون خاصة أنهم لا يملكون القوة التي تبقي الأمور تحت سيطرتهم.

وفي ظلّ ما تقدّم يطرح السؤال عن المصير وهل سيبقى لبنان يتضوّر على لهيب خطة بومبيو أم سيجد من يبادر إلى الإنقاذ؟

من أسف نقول إنّ شيئاً من محاولات الإنقاذ الفعلية لم يسجّل، وإنّ حرب البيانات والاتهامات والاتهامات المضادة لا تشكل جسراً للحلّ وانْ كان البعض يقول “اشتدّي أزمة تنفرجي” فإننا نقول التفجير يشتت و​البناء​ يستوجب الجمع الضروري لإنتاج الحلّ الذي يبدأ بمعالجة الفراغ السياسي في ​السلطة​ التنفيذية، ما يعني وجوب المسارعة إلى تشكيل الحكومة التي عليها أن تتولى من غير إبطاء معالجة الانهيارين المالي والاقتصادي وتحصين وسائل الدفاع المانع من الانهيار الأمني.

بيد أن سلوكيات المعنيين بالتشكيل لا تنبئ بإمكان تشكيل الحكومة خاصة أنّ بعضهم ينتظر إشارات من الخارج للتحرك. والخارج غير مهتمّ بإيجاد حلّ للبنان خاصة وقد ظهر أنّ لبنان ليس الآن ملفاً رئيسياً من ملفاته لا بل انه يريد أن يتخذ من لبنان موطن ضغط وأداة يستعملها في حل عقده وليقطف النتائج في ملفات أخرى في الإقليم هي الملفات الأساسية أو الجوهرية له كاليمن وسورية وغيرهما.

وعليه نرى أنّ مأزق لبنان هو صناعة خارجية استفادت من المواد الأولّية واليد التنفيذية اللبنانية، وظهر لبنانيون عن قصد أو غير قصد، عن وعي أو بدون علم، ظهروا وكأنهم هم مَن صنع ​الأزمة​ وهم مَن ينفذ فصولها وهم من يمنع الحلّ.

أما الحلّ الصحيح فإنه يتطلب برأينا يقظة ضمير لدى المسؤولين اللبنانيين وتجاوز المصالح الفردية والشخصية والفئوية والتحرّر من إملاءات الخارج ومصالحه والنظر إلى معاناة هذا الشعب الذي ألقوا به في غياهب الظلمة والظلم والمسارعة إلى تشكيل حكومة إنقاذ تتجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية والسياسية وتنظر إلى مستقبل الوطن ومصيره. ولكن وللأسف هذا غير متوفر ولا نرى في المدى المنظور ما يطمئن إلى إمكانية توفره وإرساء قواعد حل داخلي، فهل سيكون علينا انتظار الإقليم لتسوية أوضاعه وعندها يصاغ الوضع اللبناني وفقاً للمشهد الإقليمي ​الجديد​؟ هذا هو الأرجح مع الأسف…!