منذ مساء الأربعاء، لا حديث في البلاد سوى عن "​رفع الدعم​"، بعدما حسم مصرف لبنان أمره، وأصدر "البيان الرقم واحد" في آخر ساعات الليل، "مبشّرًا" المواطنين بـ"قنبلة" ستكون تداعياتها "كارثية" بل "خطيرة جدًا"، تبدأ من مضاعفة أسعار معظم المواد الاستهلاكية أربع أو خمس مرّات، وقد ترقى لمستوى "الانفجار الاجتماعي" بكل ما للكلمة من معنى.

لا يعني ذلك أنّ بيان مصرف لبنان كان مفاجئًا، أو خطوته غير مرتقبة، لأنّ كلّ التقديرات كانت تؤكد أنّ رفع الدعم آتٍ عاجلاً أم آجلاً، حتى إنّ إشاعاتٍ "غير بريئة" صدرت خلال الأسبوع عن اجتماع "حاسم" في هذا الصدد، رميت بهدف "جسّ النبض" على الأرجح، وإن سارع المعنيّون إلى نفيها، من باب "تدارك" ردّ الفعل الشعبي.

وفي الخانة نفسها، يمكن وضع المواقف السياسية "الالتفافيّة" على قرار حاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​ في الساعات الماضية. صحيح أنّ رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ سارع إلى "استدعائه"، ورئيس حكومة تصريف الأعمال ​حسان دياب​ دعا إلى اجتماع وزاري "طارئ"، انتهى إلى "تحميله" المسؤولية كاملة، لكن ماذا بعد؟

للوهلة الأولى، تبدو الإجابة غير متوافرة بعد، في انتظار "نضوج" المعطيات، واتضاح الصورة كاملة. لكنّ الترجيحات تؤكّد أنّ ما كُتِب قد كُتِب، وأنّ كلّ ما شهدته الساعات الماضية من "سجالات" بين سلامة وأركان الطبقة السياسية لن يغيّر شيئًا في الوقائع، وإن اختار البعض "التريّث" في الترجمة، حتى يستوعب الناس "الصدمة" ربما.

ثمّة من يقول إنّ ما تخشاه السلطة هو أن لا يشعر الناس بمعنى "رفع الدعم" سوى عند إصدار جدول الأسعار الجديد، ولو أنّه بات افتراضيًا على كلّ شفة ولسان. عندها فقط، سيدرك الرأي العام حجم "الكارثة"، وكيف أنّ الرواتب الشهريّة لمعظمهم لن تكفي لملء سياراتهم بالوقود لمرّتين أو ثلاث، دون احتساب تضاعف أسعار كلّ المواد الاستهلاكية الأخرى.

وثمّة من يقول إنّ ما فجّر "غضب" السلطة السياسية تمثّل في دخول قرار "رفع الدعم" حيّز التنفيذ قبل أن تفرغ من مناقشة ما تسمّيها "​البطاقة التمويلية​" التي تأخذ وقتها في المماطلة بحسمها، كما تفعل مع كلّ الاستحقاقات الأخرى، والتي يدرك القاصي والداني أنّها لن تقدّم وتؤخّر الكثير، وقد لا تكون أكثر من "رشوة انتخابيّة" في أحسن الأحوال.

ولعلّ مصطلح "الرشوة الانتخابية" ينطلق على الكثير من التصريحات التي صدرت في اليومين الماضيين، والتي "تنصّلت" من قرار سلامة، وصوّرته وكأنّه "الحاكِم بأمره"، في وقتٍ تؤكّد الكثير من المعطيات أنّ الطبقة السياسية برمّتها كانت "على علم" بالقرار، ومشاركة في صياغته، وأنّه أبلغ ​المجلس الأعلى للدفاع​ يوم الأربعاء بعدم قدرته على مواصلة المنهجية السابقة.

أكثر من ذلك، حتى لو جاز "الافتراض" بأنّ قرار سلامة كان "أحاديًا"، فإنّه لا يُعتبَر سوى "نتيجة بديهية وطبيعية" لسياسات تراكمية اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ أشهر وسنوات طويلة، التي وللمفارقة لم تتّفِق على شيء، كما اتفقت على "التمديد تلو التمديد" لسلامة، قبل أن "تنقلب" عليه اليوم، وفقًا للمصلحة السياسية الآنية.

وهناك من يذهب أبعد من ذلك، بالإشارة إلى أنّ إصرار السلطة على رفض قرار سلامة، والمضيّ ب​سياسة​ "الدعم"، من دون أيّ ضمانات، وباستخدام ما "صمد" من "الاحتياطي"، قد لا يؤدي عمليًا سوى إلى تعميق "الحفرة" التي أوقعت البلاد بها، علمًا أنّ اللبنانيين لم يعودوا مستفيدين من هذا الدعم من فترة طويلة، وهو لم يعد يكبّدهم سوى الإذلال والمشقّة.

يرى البعض أنّ سلامة يتحمّل المسؤولية في مكان ما، فهو في النهاية "مهندس" السياسات المالية والاقتصادية، التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، إلا أنّ مثل هذه المقاربة تبدو "منقوصة" إلى حدّ بعيد، فكلّ ما فعله جاء بمؤازرة، بل ربما بـ"تواطؤ" جميع أركان الطبقة السياسية، وهو بمثابة "موظف" ملزَم بتنفيذ ما يُطلَب منها.

وبالتالي، فإنّ الطبقة السياسية التي تلعب اليوم دور "الملاك"، كانت تعلم أنّ الأمور ستصل إلى هنا، لكنّها آثرت "الهروب" ببساطة، تمامًا كما كانت تعلم الأربعاء مُسبَقًا ببيان آخر الليل، لكنّها تصرّفت كما لو أنّها غُدِرت أو خُدِعت، لعلّ ذلك "يحفظ ماء وجهها" أمام جمهور، لم يعد يُعرَف إن كان لا يزال قادرًا على "تصديقها" أصلاً.

يبقى السؤال الأكبر، ماذا بعد؟ يطرح البعض هذا السؤال من باب "الضياع" الذي أحدثه القرار وردود الفعل عليه، فالدعم رُفِع نظريًا، لا عمليًا، حتى ​الساعة​، لكنّ الأسعار ارتفعت تلقائيًا، ومحطات المحروقات أقفلت بانتظار "اتفاق" المعنيّين، والمُواطن لم يعرف ماذا يفعل، لا سيما وأنّ "البقاء في البيت" لم يعد حلاً بغياب "مقوّمات" ذلك، وأولها التغذية الكهربائية.

لكنّ الحقيقة أنّ السؤال يجب أن يحيل المعنيّين إلى مسألة تأليف الحكومة، إذ إن ما حصل ينبغي أن يكون "معجّلاً" في تأليف الحكومة، لا حافزًا إلى المزيد من "المماطلة" على خطّها، لا سيما بعد الموجة "الإيجابيّة" الأخيرة، وما حُكي عن تقدّم ملموس تمّ إحرازه، على قاعدة تثبيت القديم على قدمه، بما يفتح المجال أمام التوافق على سائر التفاصيل.

لكن، رغم ذلك، ثمّة من توقّف عند قرار تأجيل النقاش حتى مطلع الأسبوع المقبل، بدل "تكثيف" التشاور، فما دافع هذا "التريّث"؟ ومن يعتقد أنّ البلاد قادرة أصلاً على تحمّل المزيد من المماطلة؟ وألم يكن بالحريّ أن يكون الإيذان برفع الدعم، إيذانًا موازيًا بـ"استنفار كامل" حتى تولد الحكومة القادرة على "احتواء" الموقف "الثقيل"؟!.