المَوتُ قبلَ تَجسُّدِ المَسيحِ كانَ رُعبًا، حتّى أنَّ كثيرًا مِن مُفكِّري اليَوم يَقولُون إنَّهُ المَجهُولُ الأكبرُ بِالنِّسبَةِ إليهم.

الكِتابُ المُقدَّسُ في عَهدِهِ القَديمِ، أضاءَ على غَلَبَةِ المَسيحِ على المَوت، لِيَتَحقّقَ بِملئِهِ في العَهدِ الجَديد. نُبوءاتٌ عنِ القِيامَةِ سَطَعَت مِن خِلالِ ما تَفَوَّهَ بِهِ أنبياءٌ تَكلَّموا على مَجيءِ المُخلِّصِ والمَصلوبِ الّذي يُقيمُ، إذ يَدعو هُوشَعُ النَّبيُّ الشعبَ بِالرُّجوعِ إلى الرَّبِّ الإلهِ لأنَّهُ "فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يُقِيمُنَا فَنَحْيَا أَمَامَهُ"(هوشع ٢:٦).

وأَيقُونَةُ الصَّلبِ رَسَمَها إشعياءُ النَّبيُّ بِتَفاصيلِها الدَّقيقَة، فما كانَ يَنقُصُها إلّا ريشَةُ كاتِبِ الأيقُونَةِ لِيُجَسِّدَها خُطوطًا وأَشكالًا وألوانًا، بعدَ أن تَحقَّقَتْ وتَمَّتْ على الجُلجُلَة. ومِمَّا تَنبَّأ نَبيُّنا: "مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ." (إشعياء ١٢:٥٣). وهُوَ نَصٌّ يُقرَأ في خِدمَةِ الصَّلبِ مِنَ القُرونِ الأُولى.

وهكَذا مَعَ المَصلوبِ تَحوَّلَتْ أداةُ المَوتِ، الصَّليبُ، إلى خَشَبَةِ خَلاصٍ، وبِتنا نَرفَعُه عَالِيًا مُنشِدِينَ: "لِصَليبِكَ يا ربُّ نَسجُدُ ولِقِيامَتِكَ المُقدَّسَةِ نُمَجِّد".

كُلُّ ذَلِكَ حَصَلَ لأنَّ المَحَبَّةَ الإلَهِيَّةَ اللامُتنَاهِيةَ أفاضَتْ عَلَينا بِتَجَسُّدِ إلهِنا، وفَتَحتْ بِالصَّليبِ أَمامَنا طريقَ مَلكُوتِ السَّمواتِ، وأصبَحَ كُلُّ حامِلِ صَليبٍ مِن أَجلِ المَسيحِ عابِرًا مِنَ المَوتِ إلى الحَياةِ الأبَدِيَّة، وعارِفًا النُّورَ البازِغَ مِنَ القَبر، ومُهلِّلًا فَرِحًا مَعَ بُولُسَ الرَّسول: "ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ"، ومُنشِدًا "أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟"(١ كورنثوس ٥٤:١٥-٥٥).

عَميقٌ هو ارتِباطُ الصَّليبِ بِالنُّورِ والقِيامَة، وأَمرٌ بَديعٌ ما نَجِدُهُ عن الصَّليبِ مِن فُسَيفسَاءَ وزَخرَفَةٍ عندَ الجَماعَاتِ المَسيحِيَّةِ الأُولى. ففي كاتِدرائيَّةِ القِدّيسِ أبوليناريوسَ، في رَافين في إيطاليا مثلًا، فُسَيفَساءُ رائعةُ الجَمالِ مِنَ القَرنِ السَّادِسِ ميلادي، وَسَطُها صَليبٌ Crux gemmate، أي صَليبٌ مُرَصَّع، وفي وَسَطِهِ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح، وعن يمينٍ الصَّليبِ ويَسارِه النَّبيّان موسى وإيليّا. وتَحتَهُ مُباشَرَةً ثَلاثَةُ خِرافٍ يُمثّلونَ تَلاميذَ الرَّبِّ بُطرُسَ ويُوحنّا ويَعقُوب. نَعم إنَّهُ حَدثُ التَّجلّي، والفَنِّ الكَنَسيّ هُنا يُترجِمُ حَدَثًا ثُلاثِيًّا: الفِداءُ والمَجدُ الإلهيُّ والنُّورُ غيرُ المَخلُوق.

ولا ننسى أنَّ عيدَ رَفعِ الصَّليبِ الكَريمِ المُحيي الّذي يَقعُ في الرَّابعَ عَشرَ مِن شَهرِ أيلول، يأتي بعدَ ٤٠ يومًا مِن عِيدِ التَّجلّي، وفي خِدمَةِ عِيدِ التَّجلّي نُرَتِّلُ كَطافسيّات الصَّليب، أي قِطعَ صَلاةٍ تَتكَلَّمُ على مَعنى الصَّليبِ مِنَ العَهدِ القَديمِ إلى العَهدِ الجَديد.

عَلى سَبيلِ المَثالِ وليسَ الحَصر: "إنَّ مُوسى لَمَّا رَسمَ الصَّليبَ ضَربَ بِالعَصا مُستَويَةً فَشقَّ البَحرَ الأحمَر، وأجَازَ إسرائيلَ ماشِيًا، ولَمَّا ضَرَبَهُ مُخَالِفًا، ضَمَّهُ على فِرعونَ ومَركَباتِه، مُمثَّلًا بِصَراحَةٍ السِّلاحَ غيرَ المَقهُور، فلِذَلِكَ نُسبِّحُ المَسيحَ إلهَنا لأنَّهُ قد تَمَجَّد".

فَقِطعَةُ الصَّليبِ هذهِ تُشيرُ إلى العُبورِ مِنَ العُبودِيَّةِ في مِصرَ إلى الحُرّيَّةِ في أرضٍ جَديدَةٍ، ومَعنى هذا لَيسَ أرضِيًّا على الإطلاقِ بل سَماويٌّ، إذِ العُبورُ الحَقيقيُّ بِالصَّليبِ هُوَ مِن عُبُودِيَّةِ المَوتِ في الخَطيئَةِ إلى حُريَّةِ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ في أُورَشَلِيمَ السَّماوِيَّة.

هَكذا، الصَّليبُ مُرتَبِطٌ دائمًا بِالقِيامَةِ والغَلَبَةِ على الجَحِيم، فلِذا هُوَ السِّلاحُ غَيرُ المَقهُورِ الّذي علَيهِ فجَّرَ يَسوعُ مَملَكَة الجحيم وأبطلَ الموت.

ولكي يَتَحقّقَ هذا فِينا، عَلينا أن نَحمِلَ الصَّليبَ لِنَعبُرَ مَعَ الرَّب. لِهذا في خِدمَةِ عيدِ الصَّليبِ نَقولُ مِئةَ مَرَّةٍ "يا ربُّ ارحم"، في كُلِّ مَرَّةٍ ينحني الكاهِنُ حامِلًا الصَّليبَ مَرفُوعًا بينَ الرّياحِين، لِيَضَعَهُ على المِنضَدَةِ وَسطَ الكَنيسَةِ، ويَتبَارَكَ مِنهُ المُؤمِنون.

حذارِ أن نَقولَ إنَّ هذا تَكرارٌ، هُوَ بِالأَحرى نَبَضاتُ قَلبٍ عاشِقٍ لِمُخلِّصِه. فَكَم مِن مَرَّةٍ يَقُولُ الحَبيبُ لِحَبيبَتِهِ، والعَاشِقُ لِعَشيقَتِهِ أُحِبُّكِ ولا يَشبَع؟.

وبالعودةِ إلى رسمِ الصليب، فعِندمَا اختبَرَ قِسطَنطينُ المَلكُ (القَرنِ الرَّابع) خَلاصَ الصَّليب، زَيَّنَ مَدخَلَ قَصرِهِ بِرَسمٍ لهُ واضِعًا الصَّليبَ فَوقَ رَأسِهِ وتِنّينًا تَحتَ قَدَمَيهِ (إشارَةً إلى الشَّيطانِ المَهزُوم). كما نَصبَ وَسطَ رُوما تِمثالًا لَهُ حامِلًا صَلِيبًا، وكِتابَةً تقول: "بِعَلامَةِ الانتِصارِ هذِهِ (أي الصَّليب)، الّتي هِيَ القُوَّةُ الحَقيقيَّةُ، خَلُصَت مَدينَتُكِ (يا روما) مِن نِيرِ الطُّغيان".

فالصَّليبُ شِعارُ خَلاصٍ، وليسَ مُكابَرَةً أو تَحدّيًا أو افتِخارًا وتباهِيًا بِمَجدٍ بَاطِلٍ. فعِندَمَا يَتدَلَّى على صُدُورِنا يَكونُ دَينُونَةً لنا إن لم نَتَمَثّلْ بِتَفاني المَصلُوبِ وتَواضُعِهِ ومَحَبَّتِه وفِدائِه.

وطَبعًا هُوَ ليسَ خَشبتَين، ولا زَخرَفَةً نَتَزَيّنُ بها، بل فِداءٌ وخَلاصٌ وانتِصَارٌ وغَلَبة على الخَطِيئَةِ وظُلمَتِها الّتي تَجعلُنا أمواتًا ونَحنُ ما زِلنا أَحياءَ في الجَسَد.

وإن أحسنّا التَّمثُّلَ بِالرَّبِّ لأَصبَحنا أَناجيلَ حَيَّةً ورَياحِينَ عَطِرَةً تَفوحُ مِنها رَائِحةُ المَسيحِ الذَّكِيَّةُ كَحالِ القِدّيسينَ والشُّهَداءِ والأبرار، وإن لم نُحسِنْ نُصبحْ إكليلَ شَوكٍ نُجَرِّحُ بهِ الرَّبَ مِن جَديد.

خُلاصَة، كَتبَ ترتليانُس، من القَرنِ الثّاني ميلادي، أنَّ المَسيحيَّةَ دِيانةُ الصَّليبِ Religio crucis. وقبلَهُ كَتَبَ بُولُسُ الرَّسولُ في رِسالتِهِ إلى أهلِ كُورنثُوس: "نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!"(١ كورنثوس٢٣:١).

والحلُّ الوَحيدُ كي لا نَتَعثَّرَ بِالصَّليبِ أو لا نَكونَ جُهلاءَ عن تَدبيرِ اللهِ الخَلاصيّ، كما الطَّريقُ الأمثَلُ لأن نَكونَ حَقًا مِن أتباعِ المَصلُوب، الحَلُّ كَلِمَةٌ واحِدَة: "المَحبَّة" الّتي وَحدَها نَكتَشِفُ أن ما مِن حُبٍّ أَعظَمَ مِن هذا الفِداءِ الإلَهيّ.

فإذا كُنَّا، نَحنُ البَشرَ، نَفدِي مَن وما نُحِبُّ بأنفُسِنا، أكان شخصًا أو جَماعةً أو عَقيدةً أو وَطنًا أو أُمَّةً، فكَم بِالأَحرى اللهُ الذي ارتَضى أن يَتَجسَّدَ ويُصلَبَ ويُقيمَنا مَعَهُ، ولا يَترُكنا في ظُلمَتِنا؟.

فنحنُ أولادُهُ وهُوَ أحبَّنا حتَّى مَوتِ الصَّليب.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.