خلافًا لما اعتقده كثيرون، لم تنجح أحداث الطيّونة في التخفيف من حدّة "الخلاف" الذي وقع في الأيام الأخيرة بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" على خلفيّة موقف الأول من المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار وإصراره على "تنحيته" بأيّ طريقة ممكنة، وتمسّك الثاني بمبدأ "استقلالية القضاء"، ودعوته القوى السياسية إلى ترك القاضي ينجز عمله، ليُبنى على الشيء مقتضاه بنتيجة ذلك.

فعلى الرغم من دخول "القوات اللبنانية"، الخصم التاريخي والأكبر لـ"التيار"، على خطّ الأحداث، بعدما اتّهمها "حزب الله" و"حركة أمل"، بالوقوف خلف "مجزرة الطيونة" من خلال ممارسة "القنص المباشر"، إلا أنّ "الوطني الحر" وجد أنّ مصلحته السياسيّة والانتخابية، إضافة إلى ثوابته، تقتضي منه البقاء على موقفه "المبدئيّ" نفسه، ما دفعه إلى اللجوء إلى "المنطقة الوسط"، إلى جاز التعبير.

هكذا، قرأ كثيرون في موقف "التيار الوطني الحر" من أحداث الطيونة محاولة لإيجاد "توازن" بين المنطقين، فهو من جهة سعى إلى التضامن مع "حزب الله"، في وجه "الاعتداء المسلح" الذي تعرّض له مناصروه، الذين كانوا يعبّرون عن رأيهم، وهذا حقّهم المشروع، لكنّه من جهة ثانية، تمسّك باصطفافه "المناقض" للحزب في الموقف، رافضًا ما اعتبره "محاولة لفرض الرأي"، وهذا ليس من حقّ أحد.

يقول "العونيّون" إنّ الموقف ممّا حصل في الطيّونة واضح، فما تعرّض له المتظاهرون، وهم يعبّرون عن رأيهم، ولو كان مثيرًا للجدل وإشكاليًا، مرفوض شكلاً ومضمونًا. يشيرون إلى أنّ ما حصل، وتمّ توثيقه على الهواء مباشرة عبر الشاشات، من عمليات قنصٍ مباشر من الأبنية المجاورة، هو جريمة موصوفة، ولا يمكن تبريرها، حتى لو صحّت الفرضيّات التي تحدّثت عن شعارات "استفزازية" أطلِقت.

ويذهبون أبعد من ذلك بالإشارة إلى أنّ المشهد "المؤلم" الذي سطّرته أحداث الطيونة وذكّر كثيرين بأجواء الحرب، بكلّ تفاصيله، ولا سيما لجهة الربط بين منطقتي الشياح وعين الرمانة، مع ما له من "رمزية تاريخية"، في أذهان الكثيرين، كان من الممكن أن يجرّ البلاد إلى ما هو أسوأ، وتحديدًا إلى "الفتنة"، لولا تدارك المعنيّين الأمر، ومسارعتهم إلى احتوائهم، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون، إضافة إلى مؤسسة الجيش اللبناني.

لكنّ هذا الموقف "المتضامن" إنسانيًا وأخلاقيًا مع المتظاهرين، وعلى رأسهم "حزب الله"، لا يختصر المقاربة "العونيّة" لما حصل، حيث لا يتردّد بعض "العونيّين" في الحديث عن "مسؤوليّة" تقع على عاتق منظّمي التظاهرة "السلميّة" في تهيئة الأجواء للجريمة التي وقعت، حتى إنّ هناك بين الناشطين المفترضين المحسوبين على "التيار" من وضع "القوات" و"أمل" في خانةٍ واحدة، هي "ميليشيات الحرب"، ولو حيّد "الحزب" عنها، لضرورات سياسية.

في هذا السياق، يقول "العونيّون" إنّ "التيار" كان واضحًا من اللحظة الأولى التي احتدم فيها الخلاف داخل مجلس الوزراء، ولحظة انبرى بعض الوزراء المحسوبين على الثنائي الشيعي إلى التهديد بالشارع، حيث كان موقفه حاسمًا بأنّ الاحتكام إلى هذه "اللعبة" ليس حلاً، خصوصًا أنّ التجربة أثبتت أنّ الشارع ليس في مصلحة أحد، مهما بلغت مستويات التجييش والتحريض، وهو ما تجلّى بوضوح في الأيام القليلة الماضية.

بالنسبة إلى "التيار"، لا تكمن المشكلة في تعبير "حزب الله" وسواه عن رأي مخالف، فهذا الحقّ ليس مشروعًا فقط، بل مكرَّسًا بقوة القانون والدستور، لكنّها في محاولة "فرض" هذا الرأي، وهو ما تجلى في أداء "الحزب" هذا الأسبوع، فهو بعدما استنفد كلّ الأساليب القانونية لـ"إزاحة" المحقق العدلي عن ملف التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، من دون أن تستجيب المحاكم لمطلبه، طالب مجلس الوزراء بالتحرّك لاستبداله.

هنا، تعمّق الخلاف، وفق الرواية "العونيّة"، فبعدما اصطدم الداعون لتنحية القاضي البيطار، برأي متمسّك بمبدأ "استقلالية القضاء"، يستند أيضًا إلى عدم امتلاك الحكومة للصلاحيّة القانونية التي تتيح لها تنحية القاضي، ولو أنّ وزير العدل هو الذي يعيّنه، قرّروا "التصعيد"، فلوّحوا بتعليق عمل الحكومة، وصولاً إلى "تطييرها"، قبل أن يهدّدوا باللجوء إلى الشارع، وهو ما تصدّى له رئيس الجمهورية، رافضًا سياسة "التهديد والوعيد".

لكن، هل يمكن أن يتغيّر الموقف بعد "مجزرة الطيونة"، إن جاز التعبير، خصوصًا بعدما أدرك الجميع "خطورة" التصعيد في هذه المرحلة، وفي وقتٍ لا شكّ أنّ "الأولويات" التي على الحكومة التفرّغ لمعالجتها مختلفة كليًا؟ وهل من "مرونة" يمكن أن تظهر تعيد المياه لمجاريها بين "حزب الله" و"التيار"؟

يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنّ أحداث الطيونة ستزيد الأخير "تصلّبًا"، فهو وإن أكد على "ضبط النفس"، ورفض "الانجرار" إلى ما وصفها بـ"الفتنة الخبيثة"، إلا أنّه "سيتطرّف" أكثر في موقفه، وسيرفض أيّ "تسوية" في ملف القاضي البيطار، لا تفضي سوى إلى "عزله"، ولن يتردّد في مطالبة "التيار" بموقف واضح وحازم، خصوصًا بعد دخول "القوات" على الخط، فإمّا يكون مع حليفه الصامد، أو مع خصمه التاريخيّ.

في المقابل، يصرّ "العونيّون" على أنّ الأمور لا يمكن أن تُحَلّ بهذا الشكل، وعلى أنّ أيّ "تحفّظ" على أداء القاضي البيطار أو غيره مشروع، لكن لا يُعالَج إلا عبر المؤسسات، التي تكفل كلّ أساليب الطعن والمراجعة، إن لم يكن اليوم، فحين يصدر قراره الاتهامي، وهو ما لم يُسمَح له بإنجازه بعد، علمًا أنّ "تداعيات" تنحيته بالقوة لن تكون في صالح أحد، في ظلّ "الأعين الدولية" المراقبة، والتي تعوّل عليها الحكومة لإطلاق عملية الإنقاذ الموعودة.

يقول البعض إنّ الموقف "العونيّ" منبثق من حسابات لا يبدو أنّ "تقاطعها" سهل، فهو من ناحية حريص على "تحصين" تفاهمه مع "حزب الله"، رغم كلّ الاختلافات، عشيّة انتخابات لا "حليف" له فيها سواه، ومن ناحية ثانية، لا يريد أن يخسر "شعبيّته" في الشارع المسيحي، الذي بات من الواضح أنّه "غير متفهّم" لحيثيّات "الهجمة الشرسة" التي ينفّذها الحزب، ويضرب من خلالها بعرض الحائط مفهوم "دولة القانون والمؤسسات" عن بكرة أبيه!.