يعشق بعض اللبنانيّين إعطاء لبنان أهميّة كبرى في صراعات المنطقة والعالم، ويستغلّ الكثير من السياسيّين وَهم العَظمة هذا، لإعطاء اللبنانيّين آمالاً غير واقعيّة، في مُحاولة للتنصّل من المسؤوليّات عن الأسباب الحقيقيّة للأزمات الداخليّة، وفي مُحاولة للتهرّب من تحمّل النتائج المُترتّبة عنها! وفي هذا السياق، يتمّ حاليًا الحديث بشكل مُتزايد عن جولة مُحادثات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخليجيّة، وعن المُفاوضات بين إيران والدول الغربيّة بشأن برنامجها النووي، وكأنّ الحلول لمشاكل لبنان ستبصر النور فور إنتهاء هذه الإتصالات الإقليميّة-الدَوليّة. فهل هذا الأمر صحيح؟.

بحسب نظريّة المُتفائلين، إنّ الرئيس الفرنسي الذي كان صاحب مُبادرة إنقاذ لبنان بعد إنفجار الرابع من آب قبل عامين، سيلعب دور الوسيط خلال زيارته الحاليّة لكلّ من دولة الإمارات العربيّة المُتحدة والمملكة العربيّة السُعودية وقطر، وذلك لإعادة المياه إلى مجاريها بين لبنان والدول الخليجيّة. لكن هذا الرهان غير صحيح ومُبالغ فيه لأقصى الدرجات، فأهداف زيارة الرئيس الفرنسي إلى الخليج الأساسيّة في مكان آخر. وفي هذا السياق، تُحاول فرنسا بعد خسارتها صفقة أسلحة ضخمة مع أستراليا(1)، وقيام كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وأستراليا بتوقيع الإتفاق الأمني "أوكوس"(2)، تعويض جزء من خسائرها من خلال إتفاقات وإستثمارات مع الدول الخليجيّة الغنيّة(3). وليس بسرّ أنّ الرئيس الفرنسي الذي يسعى أيضًا لإعادة تعويم نُفوذ فرنسا الإقليمي، إتصل بنظيره الإيراني عشيّة زيارته إلى الخليج، لبحث ملفّ مُفاوضات إيران مع الغرب. والملفّات الأبرز على طاولة مُفاوضات ماكرون في الخليج تشمل أمن المنطقة المذكورة وإستقرارها، وخُصوصًا ملفّ حرب اليمن، وكذلك ملف الإنتخابات الليبيّة وملف العراق، وليس بالتأكيد الملفّ اللبناني الذي يأتي في مرحلة مُتأخّرة جدًا، والتطرّق إليه سيكون عرضيًا وثانويًا.

ومن الضروري الإشارة إلى أنّ أزمة تعطيل الحكومة في لبنان حاليًا داخليّة، وغير مُرتبطة بتدهور العلاقة مع بعض الدول الخليجيّة، حيث أنّ "الثنائي الشيعي" عطّل إجتماعات الحكومة، ولا يزال، بسبب خلاف قضائي مرتبط بتحقيقات إنفجار المرفأ، وتحديدًا برفض "الثنائي" النهج المُعتمد من قبل المُحقّق العدلي القاضي طارق البيطار للوصول إلى الحقيقة. وللدلالة على مَحدوديّة تأثير ماكرون في التفاصيل اللبنانيّة الداخليّة، لا بُد من التذكير أنّه بعد إنفجار المرفأ، كل زيارات الرئيس الفرنسي وضغوطه وحراكه في لبنان، فشلت في الإتيان بحكومة إختصاصيّين مُستقلّة، وها نحن اليوم ندفع ثمن خلافات الجهات الحزبيّة التي تقف خلف الحكومة السياسيّة المُبطّنة!.

من جهة أخرى، إنّ مصير الرهان اللبناني على تطوّر مُحادثات الجولة السابعة من المُفاوضات الخاصة بالإتفاق النووي بين إيران والدول الغربيّة، ليس أفضل حالًا من الرهان على جولة الرئيس ماكرون الخليجيّة. فإيران تريد رفع كل العقوبات الأميركيّة عنها، والحصول على ضمانات بعدم العودة عن الإتفاق مُجدًدًا، كما حصل في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وتحديدًا في أيّار 2018، بينما تريد أميركا، ومن خلفها إسرائيل، منع إيران من إمتلاك السلاح النووي. وترغب الدول الخليجيّة من جهتها، بالحدّ من إنفلاش إيران العسكري في المنطقة، وبتحجيم قُدراتها الصاروخيّة القادرة على ضرب مواقع إستراتيجيّة بعيدة. وهنا أيضًا الأولويّات مُختلفة لدى كل المَعنيّين بهذا الملف، فإسرائيل تريد الحفاظ على أمنها ووقف التهديدات العسكريّة ضُدّها من لبنان وسوريا، والسُعوديّة تريد وقف التهديدات الأمنيّة ضُدّها من اليمن، والدول الخليجيّة تريد تحجيم النُفوذ الإيراني في المنطقة ككل، والدول الغربيّة تريد الإحتفاظ بإستقرار الشرق الأوسط وبتأمين خطوط إمداد النفط والغاز، وإيران تريد رفع الحصار عنها بشكل كامل، إلخ. والملف اللبناني يحضر بشكل خجول وعرضي ضُمن كل هذه الملفّات المُهمّة والمُتشعّبة، ولا أحد مُهتمّ إذا إجتمعت الحكومة اللبنانيّة أم لم تجتمع! وفي ظلّ التهديدات الإسرائيليّة ضدّ إيران، وعدم تحقيق تقدّم كبير على خط المُفاوضات، يُوجد إحتمال كبير بأن تنتهي جولة التفاوض السابعة بنصف إتفاق، لجهة تجميد بعض العقوبات، في مُقابل إلتزام إيران بوقف عمليّات تخصيب اليورانيوم، في إنتظار ظروف أفضل للتوصّل إلى إتفاق كامل من جديد.

في الختام، حان الوقت أن يُدرك أركان السُلطة في لبنان، أنّ مسؤوليّاتهم تقضي بالتعامل بشكل مُغاير تمامًا لما يحصل اليوم، إزاء توسّع وتمدّد حالات البطالة والفقر وحتى الجوع والعوز! وحان الوقت أيضًا أن يُدرك الشعب اللبناني أنّ الحديث عن إرتباط مشاكله بمشاكل إقليميّة ودَوليّة، وعن حلول خارجيّة ستهبط عليه بالمظلّة في المُستقبل القريب، هو عبارة عن أوهام غير صحيحة، وعن خدع مُتعمّدة يراد منها إبقاء اللبنانيّين في حالة خُضوع دائمة، بعيدًا عن أيّ مُحاسبة للمسؤولين الحقيقيّين عن مصائب لبنان وشعبه!.

(1) أخلّت أستراليا باتفاق سابق مع فرنسا لشراء غوّاصات في صفقة عسكريّة ضخمة بلغت قيمتها 56 مليار "يورو".

(2) ينصّ على أن تُساعد كل من أميركا وبريطانيا، أستراليا، على تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، بالتزامن مع تعزيز الوُجود العسكري الغربي في منطقة المُحيط الهادئ، بهدف مُواجهة النفوذ الصيني المُتنامي.

(3) سيُحاول عقد صفقات أسلحة بين فرنسا والدول الخليجيّة، منها مثلاً صفقة بيع لطائرات "رافال" الحربيّة الفرنسيّة.