مرّة جديدة يُنتظر أن يعود الوفدان اللبناني والإسرائيلي في المُستقبل القريب، إلى طاولة المُفاوضات غير المُباشرة بشأن ترسيم الحدود البحريّة بين البلدين، برعاية الأمم المُتحدة، وبدفع أميركي-كما حصل في السابق. فهل ستكون النتائج مُختلفةهذه المرّة عمّا كانت عليه في خلال الجولات السابقة الفاشلة(1)؟.

صحيح أنّ لبنان مُصرّ على أنّ كامل المنطقة الحدودية بين الخط رقم 1 والخط رقم 29 هي منطقة مُتنازع عليها حدوديًا، ما يعني التمسّك بطلب منع أيّ شركة من القيام بأعمال إستكشاف وتنقيب وتطوير أو إستخراج للغاز والنفط في هذه المنطقة، قبل التوصّل إلى حلّ للنزاع، لكنّ الأصحّ أنّ إسرائيل ضربت عرض الحائط هذا التشدّد النظري اللبناني. وفي هذا السياق، ليس بسرّ أنّ شركة الخدمات النفطيّة الأميركيّة "هاليبرتون" (Halliburton) وقّعت أخيرًا عقدًا مع شركة "انرجيان" (Energean) اليونانيّة، من أجل التنقيب فيخمسة آبار، ضُمن القسم الشمالي من حقل "كاريش"بحسب التسمية الإسرائيليّة، المُلاصق للبلوك رقم 9 بحسب التقسيمات اللبنانيّة، وذلك إعتبارًا من آذار المُقبل!في المُقابل، أي في الجانب اللبناني من الحدود، يُواصل تحالف شركات "توتال" (Total) و"نوفاتك" (Novatek) و"إيني" (ENI)، المُماطلة، حيث يرفض هذا التحالف البدء بعمليّات التنقيب في البلوك رقم 9، بحجّة عدم بتّ النزاع الحدودي، مع ما يُسبّبه هذا الأمر من مخاطر على أيّ أعمال إستثماريّة مُحتملة!.

وسط هذه الأجواء، يُنتظر أن يزور كبير مُستشاري وزارة الخارجيّة الأميركيّة لشؤون أمن الطاقة، آموس هوكشتاين، المنطقة هذا الأسبوع لإِجراء مُحادثات مُرتبطة بملفّ ترسيم الحدود، حيث يُتوقّع أن يبدأ مُحادثاته مع وزيرة الطاقة الإسرائيليّة كارين الحرار، مع إمكان أن يُواصلها مع الجانب اللبناني بعد ذلك. وطالما الخرائط المُتناقضة والمُتضاربة التي رفعها كلّ من الجانبين اللبناني والإسرائيلي، والتي كانت قد تسبّبت بتوقّف الجولة الخامسة من المفاوضات منذ نحو سبعة أشهر(2)، ما زالت بدون تغيير، ما هي أسباب الأجواء المُتفائلة نسبيًا، عشيّة جولة التفاوض السادسة الجديدة؟.

بحسب مَعلومات إعلاميّة غير مَحسومة، يتردّد أنّ الوسيط الأميركي يحمل تسوية تتمثّل بأن يكون ما يُسمّى "حقل قانا" من حصّة لبنان بالكامل، علمًا أنّ هذا الحقل يضمّ إحتياطات غازيّة تُقدّر بمليارات الدولارات، ويفوق ما يتضمّنه حقل "كاريش" من مواد أوّليّة قابلة للإستخراج. ويتردّد أنّ الوسيط الأميركي سيُحاول إغراء الجانب اللبناني بهذا المكسب، على أن يوافق لبنان عندها على ترك الجانب الإسرائيلي ينطلق بأعماله في حقل "كاريش". لكن وفي مقابل هذا التفاؤل الحذر بإحتمال نجاح هذه التسوية، والتي يبدو أنّ الجانب الإسرائيلي مُوافق ضُمنًا عليها، لأنّه يريد الإنطلاق بالأعمال الميدانيّة في حقل "كاريش" بعد بضعة أسابيع فقط، وهو ما لا يُمكن أن يحصل بسلاسة في حال بقي النزاع الحدودي قائمًا، لم يرشح عن الجانب اللبناني ما يدعم هذه المعلومات التي تبدو أقرب إلى إشاعات منها إلى تفاصيل تسوية جرى تحضيرها خلف الكواليس.ويتردّد أنّ الجانب اللبناني لن يتساهل في مطالبه الحدوديّة-كما يُشاع، حتى لو حصل على مكاسب تتيح له الإنطلاق بأعمال التنقيب في ثلثي مساحات البلوك رقم 9. وبالتالي، الأمور مرهونة بما سيحصل خلال الجولة السادسة من مفاوضات الترسيم.

والخطير أنّ تكون هذه الجولة هي الفرصة الأخيرة التي تُقدّمها الولايات المُتحدة الأميركيّة للبنان، حيث من غير المُستبعد بعدها أن تترك واشنطن الحريّة لإسرائيل لمُعالجة الموضوع وفق الطريقة التي تجدها مُناسبة. والخطر الأكبر أن تمضي تل أبيب التي باتت مُرتبطة بتعهّدات وبمواعيد زمنيّة مُحدّدة مع الشركات الدَوليّة، قُدمًا بخططها للتنقيب في حقل "كاريش" من دون التوصّل إلى تسوية حدوديّة مع لبنان.

تذكير أنّ "حزب الله" كان ألمح أكثر من مرّة في السابق، أنّه لن يقف مكتوف الأيدي في حال بدأت إسرائيل بالتنقيب في مناطق نزاع حدودي مع لبنان. وبالتالي، في حال فشلت الجولة المُقبلة من المُفاوضات في التوصّل إلى تسوية، وفي حال أصرّت إسرائيل على تحدّي لبنان، فإنّ الأمور ستكون مَفتوحة على كل الإحتمالات، بما فيها خطر الإنزلاق إلى تطبيق سياسة ردع أمنيّة في البحر، بهدف الحؤول دون إنطلاق أعمال التنقيب في مساحات بحريّة يعتبر لبنان أنّها تعود إليه...

في الخُلاصة، الأمور دقيقة وحسّاسة، ويبدو أنّ الوساطة الأميركيّة التي كانت قد بدأت قبل سنوات عدّة، وتحديدًا قبل ثلاث سنوات من إنطلاق مُفاوضات الترسيم في العام 2020، قد بلغت نهايتها، الأمر الذي يُعطي أهميّة مُضاعفة لجولة التفاوض المُقبلة، خاصة وأنّ الجانب الإسرائيلي ربط نفسه بجداول عمل زمنيّة ليس من السهل تأجيلها. فهل ستنجح هذه الجولة في التوصّل إلى تسوية طال إنتظارها، أم أنّ الأمور ستذهب نحو التدهور، من التصعيد السياسي والإعلامي، إلى التصعيد الأمني في البحر، مع ما يعنيه هذا الأمر من خطر إنزلاق الأمور إلى مُواجهة أمنيّة واسعة في البرّ أيضًا!.

1) لبنان وإسرائيل أجريا جولات تفاوض عدّة إعتبارًا من تشرين الأوّل 2020، لكنّها باءت كلّها بالفشل لأسباب مُختلفة.

2) يتركّز الخلاف على منطقة مثلّثة من البحر الأبيض المُتوسّط، تبدأ عند الحدود البريّة بين لبنان وإسرائيل، وهي تغوص في البحربعرض يبلغ نحو خمسة إلى ستة كيلومترات. وبحسب الخرائط اللبنانية فإنّ المنطقة المُتنازع عليها تبلغ 2890 كلم. مُربّعًا وليس 860 كلم. مربّعًا.