في اوروبا غليان عسكري وفي العالم غليان دبلوماسي، فمن يسبق الى الحلّ! من المبكر التكهّن بهجوم روسي يجتاح ​أوكرانيا​، والقرار لا يملكه أحد، فهو موجود فقط في جيب الرئيس ​فلاديمير بوتين​. القصة ليست قصة عضوية أوكرانيا في حلف الناتو فحسب، بل هي قلق روسي على اتحادية الدولة العظمى بعدما خانها الأوروبيون قبل ثلاثة عقود. لن يثق بوتين بعد اليوم بأيّ دولة، وهو الذي يعرف تماماً أهمية ما تملكه ​روسيا​ من غاز لن تقدر اوروبا بكاملها ان تستغني عنه.

منذ بداية الحديث عن هجوم عسكري، ارتفع سعر الغاز في بعض الدول الأوروبية 400%، ونتيجة لهبوط الإمدادات شهدت فنلندا إرتفاعا ناهز 800%. أما المانيا العظيمة بإقتصادها الرابع في العالم، فهي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 75%، فإن فقدته، لتحوّلت من ​دولة مصنّعة أولى في العالم الى دولة مفلِسة بامتياز، بحيث تستحصل الصين على امتيازات التصنيع الإلكتروني والميكانيكي مكانها بلمح البصر.

في الولايات المتحدة، انشغل بالُ الرئيس الأميركي جو بايدن بالعجز الأوروبي، فطلب في العاجل مقابلة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، علّه يجد عنده حلّ تغذية اوروبا بالغاز القطَري فضلا عن إرسال عشرين ناقلة غاز مُسال من الولايات المتحدة إلى الأسواق الأوروبية، وكان الجواب أن الدولة الخليجية غير قادرة ان تحلّ محلّ روسيا، لسبب ضعف الكمية، ولارتباط قطر مع الصين بعقود لا تقدر ان تستغني عنها.

بعد الإجتماع، بدأت الإدرة الأميركية بالتنازلات، فدخل الروس رومانيا للتفتيش عن صواريخ توماهوك المزعوم نشرها على الحدود مع روسيا. والتنازل الآخر تمثّل في قرار واشنطن بالعودة الى "اتفاق مينسك" الذي يمنع الحلف الأطلسي استقدام أسلحة تهدّد أمن روسيا، وهو ما تتردد أوكرانيا بتنفيذه.

استنفار وجهوزية للحرب، مناورات على كل الحدود الأوروبيّة، وحدها اوكرانيا التي تعلّمت درساً من حرب 2014، خائفة من الإجتياح، وهي على رغم ضعف قدرتها على مواجهة ثاني أقوى جيش في العالم، فهي تتحضّر للمواجهة مع افراد شعبها. وفي المقابل، فهي غير متّكلة على الولايات المتحدة، لا عسكرياً ولا مالياً، بعدما نالت منذ 2014 فقط مبلغ 351 مليون$، وهدية لرئيس جمهوريتها عندما زار الرئيس بايدن السنة الماضية مبلغ 45 مليون$، ما يعني ان يحصل كل مواطن أوكراني على دولار وربع. واوكرانيا غير واثقة من مساعدة أحد، وهي الغارقة في أزمة اقتصاديّة خانقة تلامس أزمة لبنان.

اوروبا التي تصارع من أجل بقائها مستقلة عن الحلفين الأميركي والصيني وتناضل من أجل تطوّرها، تجد نفسها في قلب التوسّع الصيني في قارة آسيا، فمبادرة الحزام والطريق انطلقت في آسيا والبلاد العربية، من بناء السكك الحديديّة التي تربط الصين بروسيا، والصين بالسعوديّة، وبين بكّين ومدريد، وبكّين وفرنسا. ما يفسّر ان الحضور الصيني-الروسي أصبح واقعاً على السكّة الإقتصاديّة في ​أوروبا​، والبارحة انضم العراق اليها بعدما تلقّى من الصين 10.5 مليار دولار من التمويل لمشاريع تشمل محطّة لتوليد الطاقة بالنفط الثقيل. وقبل العراق، كانت صربيا وإندونيسيا على رأس الأهداف لمشاركة بناء الحزام والطريق. وأشار مركز التمويل والتنمية في شنغهاي في آخر دراسة أن الاستثمار الصيني في الدول العربيّة والشرق أوسطيّة ارتفع العام الماضي بنحو 360%، والمشاركة في البناء بنسبة 116% مقارنة بعام 2020.

اوروبا المُرتعبة على مستقبلها في قارتها، وخاصة فرنسا العظيمة، العضو الدائم في مجلس الأمن، نرى تغييبها الحاصل في أفريقيا، خصوصًا من "مالي" الشهر الفائت، حيث طردت الأخيرة سفير "أمّها الحنون" مع الطاقم الدبلوماسي، كذلك خسرت حضانتها لمستعمرَتها الأخرى" بوركينا فاسو" الشهر الجاري، والتي نجح فيها الجيش بانقلاب عسكري، بمساعدة موسكو غير المنظورة، تماماً كما حصل في "غينيا بيساو" نهاية 2021 حيث كانت الصين سيدة الإنقلاب المخفي.

وجاءت البارحة الألعاب الأولمبية في بكّين لتشهد سباقاً من نوع آخر غير الرياضة، ربحت فيه الصين وروسيا في قرار إطلاق أول عمليّة ضرب لعملة الدولار في وجه العقوبات الأميركية عبر إلغاء التعامل به في تجارتهما البينيّة، وكانت الهند وروسيا ذهبتا الى هذا القرار في وقت سابق.

حتى الساعة، تنفي روسيا التحضير لأيّ هجوم على اوكرانيا، مع اصرارها على عدم دخول الثانية في حلف الناتو. من جهتها، بكّين تربطها بالدولة الأوكرانيّة المأزومة علاقات سياسية واقتصادية. وقد يؤدي أي غزو روسي أو هجوم عسكري هناك إلى الإضرار بمكانة الرئيس الصيني شي جين بينغ.

تجدر الاشارة الى أنه بعد لقاء بوتين وبينغ في الأولمبياد الصيني، اتّهم الرئيس الروسي القوى الغربية باستخدام حلف الناتو لتقويض أمن بلاده، وقال أن الروس والأوكران هم "أمة واحدة"، "محذّرًا" أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو.

وقد بدا من الواضح قلق بوتين حيال العناد الأوروبي-الأميركي حول أزمة أوكرانيا، الأمر الذي قد يقوده ربما الى شنّ هجوم محدّد الأهداف، دفاعاً عن سيادة بلاده، ولا سيما انه قد اخذ الضوء الأخضر ممّن يرسم سياسة بعض دول العالم، حسب ما جاء على لسان مراقب كبير في واشنطن.

وينفي مصدر أميركي أن تنزلق الأمور الى حرب كبيرة بين الدول العظمى. مؤكّدًا أن النووي لن يُستعمل، وما هو إلا فزّاعة لأخذ مكاسب إقتصادية لأنّها ستكون محور الحروب المقبلة، عبر تضييق الخناق ودعم انقلابات هنا وهناك.

الوضوع المأزوم في أوكرانيا ينعكس فعليّا على أوروبا مجتمعة في دولها واضعة إيّاها في وجه العاصفة، وهي اليوم في مأزق لإسترضاء روسيا بشأن الغاز، وقد رأينا هرولة وزير الخارجية الألماني أولاف شولتز الى واشنطن لاجراء لقاءات في البيت الأبيض، وللتأكيد على أن ألمانيا ماضية في علاقات اقتصادية وثيقة مع موسكو، مما يدفعها إلى أن تكون أكثر حذرا بشأن العقوبات المحتملة ضد روسيا، بدوره يزور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد التنسيق مع الإتحاد الأوروبي كل من العاصمتين كييف وموسكو، لمواصلة السعي عبر الحوار إلى خفض التوتّر، في ظل وحدة الصفّ والاحترام التام للمبادئ الجوهريّة للأمن الأوروبي وسيادة الدول، حسب ما قاله!.

في الخلاصة، إذا حصل هجوم روسي ما على اوكرانيا، فلن يكون نزهة على غرار ما جرى عام 2014، لأن الكتائب الإقليمية أعيد تأسيسها مع عدد لا يقل عن 500 ألف جندي، على الرغم من أن الاجتياح بالرغم من صعوبته لن يكون مستحيلا على الجيش الروسي، فأوكرانيا هي أكبر ثالث دولة أوروبية من حيث المساحة بعد روسيا وفرنسا، وتتمتع بأجمل المنتجعات والقصور، دُعيت عاصمتها كييف بمدينة الأبطال بعد مواجهتها للنازيين عام 1941 ستواجه روسيا التي تعتبرها كجزء منها مرة جديدة... يبقى أنّ الجواب مع بوتين وحده، حيث يقف العالم منتظرًا بقلق ما ستؤول اليه المفاوضات الجارية.

نيويورك-الأمم المتحدة