غادرَ وفد صُندوق النقد الدَولي برئاسة أرنستو راميريز ريغو لبنان، على أن يعود إليه مُجدّدًا في نهاية آذار الحالي، ليُواصل تقييم ما تقوم به الدولة اللبنانيّة من إجراءات، لمُعالجة الأزمة الماليّة-الإقتصاديّة، ولكسب ثقة المُجتمع الدَولي، تمهيدًا للحُصول على مُساعدات وقروض ماليّة. لكن وبعيدًا عن البيانات الإنشائيّة الرنّانة الخاصة بنتائج هذه المُحادثات، لا بُد من الإشارة إلى أنّ الدولة اللبنانيّة لم تقم عمليًّا بعد، بأيّ إجراءات مُهمّة لمُعالجة الأزمة الحادة التي كانت قد تفجّرت في 17 تشرين الأوّل من العام 2019. واليوم، وبعد مرور نحو سنتين ونصف السنة على الإنهيار، ما زال اللبنانيّون يتخبّطون يمينًا ويسارًا، ويغرقون أكثر فأكثر تحت وطأة الأزمات المُتلاحقة، من دون وُجود لأيّ خطة إنقاذيّة وإصلاحيّة حتى هذه اللحظة! والأخطر أنّ المُودع اللبناني يدفع اليوم، وفي آن واحد، ثمن الضُغوط الخارجيّة وتصفية الحسابات الداخليّة!.

بالنسبة إلى ما يدخل في سياق الضُغوط الخارجيّة التي يُمارسها وفد صُندوق النقد الدَولي، فهو يشمل تحديد الخسائر الماليّة في لبنان بدقّة، وتوزيعها بشكل واضح ونهائي، وتوحيد سعر صرف ​الدولار​ على مُختلف المنصّات، والإلتزام بإقرار المُوازنة بشرط أن تكون أكثر واقعيّة وعملانيّة، وكذلك الإلتزام بإقرار قُطوعات الحساب وتنفيذها، ووضع خُطّة لإعادة جدولة الديون الخارجيّة، والإلتزام بمواعيد واضحة لتنفيذ كل هذه الإلتزامات، إلخ... ويمكن القول إنّ تنفيذ أيّ بند من هذه البُنود، سينعكس سلبًا على ​المواطن اللبناني​ عُمومًا، وعلى المُودع بشكل خاص، لأنّه بكل بساطة سيتمّ تحميل اللبنانيّين وأصحاب الودائع في ​المصارف​، وزر كل السرقات والصفقات والمشاريع الفاشلة التي نُفّذت، ووزر كل سياسات الهدر والصرف العشوائي وسوء الإدارة الماليّة التي إعتمدت. وما لا يعرفه الكثيرون أنّ تحديد الخسائر وتوزيعها تحت عنوان "العدالة"-كما يُشاع، يعني عمليًا تحميل المُودعين جزءًا كبيرًا من هذه الخسارة، فأين العدالة في هذا الإجراء؟ فما ذنب أيّ مودع في كل ما حدث من سرقات وصفقات وسمسرات وهدر وسوء إدارة ماليّة، إلخ؟ حتى الحجّة القائلة إنّ الكثيرين أخذوا فوائد ماليّة عالية، هي حُجّة باطلة، لأنّ مكاسب المصارف من الأموال التي حصلت عليها ووظّفتها أكثر من هائلة، ولأنّ ما يجري منذ سنتين حتى تاريخه من عمليّات إقتطاع من ​أموال المودعين​ أو "هيركات"، فاقت قيمته بكثير ما جرى جنيه من فوائد! والأكيد أنّ لسان حال أي مُودع هو أصلاً: "خُذوا الفوائد التي حصلت عليها، وأعيدوا إليّ أموالي وجنى عمري"!.

بالنسبة إلى ما يدخل في سياق تصفية الحسابات الداخليّة، فإنّ الإجراءات القانونيّة التي تلاحق حاكم ​مصرف لبنان​ وبعض المسؤولين في ​القطاع المصرفي​، تُشكّل جزءًا صغيرًا من الإجراءات المَطلوبة لمعرفة مُسبّبات وخلفيّات الإنهيار المالي الذي حصل، والذي يتواصل بسرعة خطيرة جدًا. لكنّ المُشكلة أنّ تحريك هذا الملف بدوافع إنتخابيّة أو حزبيّة، وحصر التحقيقات بأشخاص مُعيّنين دون سواهم، يصبّ في خانة تصفية الحسابات الداخليّة، ويدفع سريعًا نحو تسييس الملفّات الماليّة التي يجب أن تطال الجميع. فالأسئلة بشأن الهدر المالي تطال الصناديق المُتعدّدة، ومنها صندوق المُهجّرين على سبيل المثال لا الحصر، مُرورًا بالمجالس المُتعدّدة، ومنها مجلس الجنوب على سبيل المثال لا الحصر أيضًا، وُصولاً إلى الوزارات والمؤسّسات التابعة لهذه الوزارات، ومنها وزارة الطاقة وتاليًا مؤسّسة كهرباء لبنان على سبيل المثال أيضًا وأيضًا. والقصّة تشمل سياسة ماليّة فاشلة منذ عشرات السنوات، تخلّلها أزمات سياسيّة عدّة وحتى حرب مُدمّرة في العام 2006، وُصولاً إلى سياسات حزبيّة سبّبت عزل لبنان عربيًا ودَوليًا. وبالتالي، إنّ أيّ تدقيق جنائي جدّي وفعلي، لا يُمكن أن ينحصر بوزارة أو بمؤسّسة أو بهيئة دون سواها، أو بصندوق أو بمجلس أو بمصرف دون سواه، لأنّ الشكوك تطال الجميع، والإتهامات المُتبادلة أكثر من أن تُعدّ وتُحصى. والأخطر أنّ الحمايات السياسيّة والطائفيّة والحزبيّة تشمل العديد من الشخصيّات، الأمر الذي ظهر جليًا في العديد من الملفّات، إن الماليّة أو الأمنيّة أو غيرها. وهذا الجوّ لا يُساعد إطلاقًا على الوُصول إلى الحقيقة، ولا على القيام بمُحاكمات عادلة.

في الخُلاصة، سيعود وفد صُندوق النقد إلى لبنان بعد بضعة أسابيع، وسيحمل المزيد من المطالب القاسية، علمًا أنّ سقف المُساعدات والقروض الدَوليّة الموعودة للبنان، يقلّ عمّا أنفقته خزينة الدولة على سياسات دعم فاشلة خلال السنتين الأخيرتين! وستتواصل الضُغوط الداخليّة تحت عنوان إجراء تحقيقات جنائيّة لكشف المسؤولين عمّا حصل، علمًا أنّ تداخل المسؤوليّات وإنتماء المُتهمين إلى محاور وجهات سياسيّة مُتضاربة، يعني سلفًا عدم الوُصول إلى الحقيقة. والأكيد أنّ المُواطن اللبناني هو الوحيد الذي يُواصل دفع الأثمان الباهظة، من معيشته ونوعيّة حياته ونمط عيشه، للإنهيار الذي حصل. والمُودع هو الوحيد الذي يواصل دفع الأثمان الباهظة، من أمواله وجنى عُمره، للسرقة المَوصوفة التي حصلت بالتكافل والتضامن بين مسؤولين في الدولة وآخرين في قطاع المصارف!.