في خضم الأزمة المعيشيّة والحياتيّة الخانقة التي باتت تُلاحق شرائح واسعة من اللبنانيّين، جاءت الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة لتُضيف المزيد من المآسي على حياة اللبنانيّين. وإذا كان صحيحًا أنّ الإنعكاسات السلبيّة لهذه الحرب طالت العالم أجمع، حيث راحت أسعار بعض المواد الأساسيّة ترتفع تدريجًا، فإنّ الأصحّ أنّ "تُجار مال الحرام" في لبنان، والهيئات الرقابيّة الضعيفة التابعة للدولة، جعلوا طوابير الذلّ تعود إلى المشهد اليومي اللبناني، وتسبّبوا بتناقص وحتى بفقدان الكثير من السلع والمواد الغذائيّة الأساسيّة عن الرفوف، وكذلك بارتفاع سعرها بشكل عشوائي. والمُشكلة أنّ اللبناني الذي عانى الأمرّين خلال أزمات السنتين الأخيرتين، يُسارع بدوره إلى السُقوط في فخّ هؤلاء التُجّار، فيقوم بشراء هذه السلع بأيّ سعر، وبتخزينها في منزله، خشية إنقطاعها. فكيف السبيل إلى الخُروج من هذه الدوّامة التي تتكرّر مع كل أزمة داخليّة أو عالميّة، ومع كل إرتفاع أو إنخفاض في سعر الصرف؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه عندما يرتفع سعر صرف الدولار في لبنان بشكل عشوائي وسريع، يُسارع التُجّار إلى تغيير الأسعار في اليوم نفسه، بحجّة الحفاظ على "رؤوس أموالهم"، وبذريعة أنّهم مُضطرّون للشراء على السعر المرتفع لتلبية حاجات السوق والمُستهلكين. وعندما ينخفض سعر صرف الدولار بشكل سريع أيضًا، يرفضون خفض الأسعار، بحجّة أنّ لديهم كميّات كبيرة موجودة في المخازن، وأنّهم دفعوا ثمنها على السعر المُرتفع، ومن الضروري تصريفها كلّها، قبل قيامهم بخفض السعر! وهذا التناقض الفاضح يكشف كذب هذه الإدعاءات، فإمّا لدى التُجّار كميّات كبيرة مُخزّنة، ويجب بالتالي عدم رفع الأسعار عند إرتفاع أسعار الدولار، قبل بيع ونفاذ الكميّات المُخزّنة كلّها، والإضطرار لشراء كميّات أخرى على السعر الجديد المرتفع. وإمّا ليس لديهم كميّات مُخزّنة، ويجب بالتالي شراء كميّات جديدة بشكل دائم، لتلبية حاجات السوق والمُستهلكين، وعندها يجب أن تنخفض الأسعار بشكل فوري وبالتزامن مع إنخفاض سعر صرف الدولار، لأنّ التُجّار يشترون السلع بشكل دوري.

وما حصل في الأيّام القليلة الماضية، أنّ "تُجار المال الحرام" من شركات إستيراد وتوزيع البنزين والمازوت والغاز، وُصولاً إلى المحطّات، يملكون كميّات كبيرة من هذه المواد، تكفي لأسابيع عدّة إلى الأمام-في أقلّ تقدير، لكنهّم راحوا بتقطير توزيعها وبيعها للمُستهلكين، لأنّهم يطمعون ببيعها بأعلى سعر ممكن. فالأسعار العالميّة آخذة بالإرتفاع يوميًا، وهم بالتالي ينتظرون صُدور الجدول الجديد للبيع على سعر مرتفع، وهذا الأمر سيتكرّر تباعًا طالما أن السوق العالمي مُضطرب، بسبب إستمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وهذا يعني أنّ الكميّات التي سُتسلّم لمحطّات التوزيع ستبقى قليلة وشحيحة، والهدف إنتظار إرتفاعات إضافيّة في الأسعار، وبالتالي تحقيق المزيد من الأرباح، في ظلّ غياب شبه كامل لأجهزة الدولة الرقابيّة، باستثناء بعض الجولات الإستعراضيّة التي لا تؤثّر على عمل شبكة "المافيات" المُتمكّنة جدًا، والتي تستفيد من حمايات مُختلفة.

ولا يختلف طمع وقلّة ضمير المتاجر الكبرى عن طمع وقلّة ضمير شركات إستيراد وتوزيع المواد النفطيّة ومحطات الوقود، حيث سارعوا بدورهم إلى تخبئة قسم كبير من كميّات الطحين والزيت النباتي والسكر وغيرها من السلع الغذائيّة الأساسيّة، بالتزامن مع تعميم إشاعات على وسائل التواصل الإجتماعي بقرب إنقطاع هذه السلع. ووقع المُستهلك اللبناني-كالعادة، في الفخّ، فسارع إلى شراء كميّات كبيرة تفوق حاجته من هذه السلع، بهدف تخزينها للإستهلاك المُستقبلي، بحيث إستغلّ "تُجّار مال الحرام" هذا الأمر، وسارعوا إلى رفع الأسعار فورًا.

والأسئلة التي تفرض نفسها في ظلّ هذا الواقع التعيس الذي يعيشه اللبناني: لماذا لا يتمّ إعتماد الشدّة والقوّة في إجبار كل المحطّات المقفلة (وليس عيّنة منها) على بيع مخزونها من المواد النفطيّة، مع مُعاقبة تلك المُخالفة بغرامات ماليّة موجعة؟ ولماذا لا يتمّ تطبيق نفس الحزم مع شركات إستيراد وبيع المواد النفطيّة، ومع شركات إستيراد ومتاجر بيع السلع الغذائيّة أيضًا؟ ولماذا مُكافأة "تُجار مال الحرام" بالسماح لهم برفع الأسعار، علمًا أنّ المواد التي يُسوّقونها موجودة في مُستودعاتهم ومخازنهم منذ أشهر؟ ألا تعرف أجهزة الرقابة أنّ أيّ شُحنة بضائع-على إختلاف أنواعها، تُستورد من الخارج، تتطلّب أشهرًا عدّة للوُصول إلى لبنان، بسبب إجراءات الشراء الروتينيّة أوّلاً، والتوضيب في بلد المنشأ أو البلد المُصدّر ثانيًا، والشحن والنقل إلى لبنان ثالثًا، والتوزيع والبيع رابعًا؟! فكيف يُعقل أن يرتفع سعرها بشكل فوريّ، وكأنّه تمّ شراؤها على السعر العالمي الجديد؟!.

في الخُلاصة، الدولة اللبنانية تلاشت كليّا حتى الإضمحلال، وأجهزتها الرقابيّة غير فاعلة إطلاقًا، وجشع "تُجار مال الحرام" لا سقف له. وكلّ هذه العوامل مُجتمعة جعلت اللبناني يسقط فريسة القلّة والحاجة وحتى الفقر، وضحيّة التضليل والخداع والخوف على المُستقبل. وصار اللبناني يفرح إذا حصل على "تنكة" بنزين بعد ساعات من الإنتظار، أو إذا حصل على كيس طحين-حتى ولوّ بأغلى سعر، والسبب بكل بساطة أنّ اللبناني فقد الأمل كليًا، وبلغ مرحلة اليأس من كل شيء!.