لا حديث يعلو هذه الأيام على حديث ​الانتخابات النيابية​، التي بدأت الأحزاب السياسية تشعر بـ"حماوتها" مع بدء "عدّاد" الأيام الفاصلة عن موعدها يضيق شيئًا فشيئًا، ما دفع الكثير منها إلى "إدارة" محرّكاتها، عبر إطلاق ​الحملات الانتخابية​، وإعلان المرشحين المفترضين، وبدء النقاش الجدّي في التحالفات وتركيب اللوائح وسوى ذلك.

لكن هذه الأحزاب، ولو بدا أنّها سلّمت بـ"الأمر الواقع"، القاضي بأنّ الانتخابات حاصلة "حتمًا" في موعدها المقرّر في الخامس عشر من أيار المقبل، لا "تتقاطع" عند مقاربة موحّدة للاستحقاق، الذي "شرذم" سلفًا صفوف بعضها، فيما أوقع البعض الآخر بـ"ارتباكات" قلّ نظيرها، وسط "رهانات" لم تنتهِ بعد على "تأجيل"، ولو بطابع "تقنيّ".

وإذا كان تيار "المستقبل" يتصدّر هذه الأحزاب، وقد "انقسم" على نفسه، بعد قرار رئيسه سعد الحريري تعليق مشاركته في العمل السياسي، والإحجام عن خوض الانتخابات ككلّ، فإنّ تردّداته وصلت على ما يبدو إلى فريق "العهد"، وتحديدًا "​التيار الوطني الحر​"، الذي شكّلت استقالة أحد "المناضلين القدامى" فيه، النائب ​حكمت ديب​، "جرس إنذار" إلى حدّ بعيد.

فما حقيقة "البلبلة" الحاصلة في صفوف "التيار الوطني الحر" عشيّة الانتخابات، في ظلّ أحاديث متكرّرة عن أنّ استقالة ديب لن تكون "يتيمة"، بل إنّ موجة "نزوح" جديدة من التيار "البرتقالي" قد تشهدها الأيام القليلة المقبلة؟ وهل يسعى "التيار" فعلاً كما يروّج بعض خصومه، إلى "تطيير" الانتخابات بذرائع "تقنية"، لعلّ آخرها وأبرزها "الميغاسنتر"؟!.

بالنسبة إلى استقالة النائب حكمت ديب أولاً، تتفاوت وجهات النظر داخل "التيار" وخارجه بشأنها، خصوصًا أنّ سببها المباشر لم يكن سوى "استبعاده" من الترشيحات الرسمية إلى الانتخابات المقبلة، استنادًا إلى آلية التصويت الداخلي التي اعتمدتها القيادة "العونيّة"، ولو أنّ النائب "العتيق" في صفوف "العونيّين" تحدّث عن "تراكمات" بالجملة في العلاقة بينه وبين القيادة، دفعته إلى اتخاذ قراره في نهاية المطاف.

إلا أنّ ما كان لافتًا كان "تلقّف" قيادة "التيار" استقالة ديب بـ"نَفَس إيجابيّ"، إن جاز التعبير، حيث خرج بعض المحسوبين عليها ليعربوا عن "تقديرهم" لمسيرة النائب الطويلة في صفوف "الوطني الحر"، التي لا تختزلها استقالة جاءت في لحظة سياسية معقّدة، مؤكدين على "حقّه" المشروع بالاعتراض على ما يعتبره "ظلمًا" لحق به، تمامًا كما على حقّ القيادة بتقدير ما ينسجم مع "مصلحتها العليا" على أبواب انتخابات توصَف بـ"المفصليّة والمصيريّة".

في المقابل، يعتبر مؤيّدو النائب ديب أنّ استقالته جاءت لتضيء على واقع غير "سَلِس" داخل "التيار الوطني الحر"، بمُعزَلٍ عن الرغبة بالبقاء في السلطة، أو "جنّة الحكم"، من عدمه، وهم يشيرون إلى منحى يتصاعد في "التيار"، بتغليب "المتموّلين على المناضلين" في الترشيحات الانتخابية، ولو أنّ هناك من يرى أنّ "تعقيدات" القانون الانتخابي هي التي تفرض بعض "التكتيكات"، وخصوصًا لجهة تركيز "الأصوات التفضيلية" على مرشحين محدّدين.

وبعيدًا عن "خصوصيّة" استقالة النائب حكمت ديب، والخلفيّات التفصيليّة المرتبطة بها، وبمُعزَلٍ عمّا إذا كانت ستفتتح موجة "استقالات" جديدة، حيث رُمي اسم النائب ​زياد أسود​ على خطّها مثلاً، قبل أن تحسم القيادة ترشيحه إلى الانتخابات، يؤكد العارفون أنّ "التيار الوطني الحر" ليس في أفضل أحواله "الانتخابيّة"، وهو ما يعزوه البعض إلى واقع "العهد" ككلّ، الذي كان يؤمَل منه "أفضل ممّا كان"، وهو ما أصاب "العونيّين" قبل غيرهم بالإحباط والخيبة.

واستنادًا إلى ما تقدّم، يقول بعض خصوم "التيار" إنّ الأخير لا يجد "مصلحة" على الإطلاق في خوض الانتخابات النيابية في الظروف الحالية، بل إنّه يعمل بكلّ ما أوتي من قوة إلى "ترحيل" الاستحقاق إلى موعد لاحق، ولا سيما أنّ واقع الشعبيّ "متراجع"، بحسب ما ترجّح الكثير من الدراسات واستطلاعات الرأي، ربطًا بالأزمات التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخير، وحُمّل "التيار" مسؤولية أساسيّة على خطّها، ولو أنّ "القيادة" تشكّك بما يتمّ تداوله بهذا الشأن.

أما الدليل على هذا "المنحى"، وفق ما يقول خصوم "التيار"، فالأداء المتراكم على امتداد المرحلة الأخيرة، والذي يُشتَمّ منه رغبة "صريحة" بإيجاد "المَخرَج" الملائم لتأجيل الانتخابات، بدءًا من الطعن الذي قدّمه "الوطني الحر" أمام المجلس الدستوري بتعديلات القانون الانتخابي، والذي كان من شأنه لو تمّ قبوله أن "يخلط" الكثير من الأوراق، وصولاً إلى إصراره على "الدائرة 16" رغم كلّ التعقيدات والمعوقات القانونية واللوجستية.

ويقول هؤلاء إنّ الأمر وصل إلى "ذروته" مع إثارة "التيار الوطني الحر" موضوع "الميغاسنتر" في ربع الساعة الأخير، فعلى الرغم من أهمية اعتماد التصويت مكان السكن، ولا سيما في ظلّ الارتفاع المستمرّ في أسعار المحروقات، ما قد يخفّض نسبة التصويت إلى حدها الأدنى، "توفيرًا" لمشقة الانتقال إلى مكان القيد، إلا أنّه كان يفترض أن يُثار في الوقت المناسب، لا في اللحظة الأخيرة، وفق ما درجت العادة اللبنانية "القاتلة".

لا شكّ أنّ "التيار الوطني الحر" ليس سوى واحد من مجموعة أحزاب السلطة التي تفضّل "تفادي" الاستحقاق الانتخابي في الوقت الحاليّ، لأسباب واعتبارات مرتبطة بالواقع الشعبي، ولكن أيضًا بالظروف الصعبة، ما يرفع من مستوى "التحدّي" الذي تمثّله الانتخابات ككلّ، والتي تبقى نزاهتها وديمقراطيتها عرضة للخطر بالمُطلَق.