في 24 شباط الماضي، بدأ الجيش الروسي هُجومه على أوكرانيا تحت عناوين طنّانة، على غرار "تجريد أوكرانيا من السلاح وإزالة أثر النازيّة منها". واليوم عشية مُرور شهر على الحرب، ما هو الوضع الميداني الحالي، وهل ستسقط العاصمة كييف، ومتى؟ وما هي الإنعكاسات المُتوقّعة على العالم ولبنان، في حالتي إنتهاء الحرب أو إستمرارها؟.

بالنسبة إلى الواقع العسكري على الأرض، إستغلّت روسيا سيطرتها على منطقة دونباس في شرق أوكرانيا منذ العام 2014، وتعاون كل من جُمهوريّتي "دونيتسك" و"لوغانسك" الإنفصاليّتين معها، للتقدّم في العمق الأوكراني من العديد من الإتجاهات الحُدوديّة. وعلى الرغم من تمكّن الجيش الروسي من التقدّم في العديد من الأماكن-ولوّ في ظلّ تكبّده خسائر جسيمة في العديد والعتاد، فإنّ أراض شاسعة من أوكرانيا التي تبلغ مساحتها أكثر من ستمئة ألف كيلومتر مربّع، لا تزال خارج سيطرته. ويعمل الجيش الروسي الذي أمّن تواصل قوّاته على خط حُدودي مُتكامل يشمل نصف الخطّ الحدودي لأوكرانيا، على السيطرة على مدن وبلدات ومناطق إستراتيجيّة الطابع نسبة إلى موقعها الجغرافي، بإعتبار أنّ من شأن السيطرة عليها أن يُحكم الطوق على العاصمة الأوكرانيّة كييف من مُختلف الجهات.

ويُمكن القول إنّه وبعكس ما يُصرّح به المسؤولون في روسيا، لم تتقدّم خُطة إجتياح أوكرانيا وفق ما كان مرسومًا لها، بسبب مُقاومة شرسة مارسها الجيش الأوكراني، خاصة في ظلّ سُرعة مدّه بأسلحة صاروخيّة مُضادة للمُدرعات وللطائرات أيضًا، من قبل العديد من الدول الغربيّة. وإنطلاقًا من هذه التطوّرات، وبعد تباطؤ سرعة تقدّمه، يعتمد الجيش الروسي حاليًا أسلوبًا تقليديًا جدًا في معركته ضُدّ أوكرانيا، لجهة العمل على قطع خُطوط الإمداد عن خُصومه، وعلى فرض حصار خانق على أكثر من مدينة وموقع. وكلّما واجه مُقاومة شرسة في أيّ منطقة، يلجأ إلى سياسة "الأرض المَحروقة" التي يُتقنها الجيش الروسي أكثر من أيّ جيش آخر في العالم، الأمر الذي رفع من حجم الإصابات في صُفوف المدنيّين، وضاعف من حجم الدمار والخراب. ولمّا كان من المُستحيل على الجيش الروسي إخضاع كامل أوكرانيا، فإنّ تركيزه الحالي هو على إسقاط العاصمة كييف، لأنّ هذا النصر المَعنوي-إن حصل، كاف برأي موسكو، لوقف الحرب وللتوصل إلى صيغة نهائيّة من موقع الرابح القادر على فرض شروطه.

من هنا، في حال نجاح روسيا في إغلاق آخر المَنافذ المُتبقّية للجيش الأوكراني، من عُمق البلاد نحو كييف، يعني أنّ العد العكسي لسُقوط العاصمة يكون قد بدأ. لذلك، من المُلاحظ أنّه كلّما تقدّمت القوّات الروسيّة من محور مُعيّن على مشارف كييف، يُحاول الجيش الأوكراني القيام بهُجوم مُضاد لإسترداده، لأنّ حصار العاصمة بشكل كامل يعني وقف كل أنواع الإمدادات لها، ما سيُضعف تلقائيًا قُدرتها على المُقاومة، والعكس صحيح. وفي حين تُراهن موسكو على إنهاك كييف، وعلى فرض حصار خانق عليها، لإرغامها على الرُضوخ للشروط الروسيّة لإنهاء الحرب، تُراهن كييف على الصُمود لأطول فترة مُمكنة لإستنزاف الجيش الروسي ولإرغامه على إعادة حساباته، خاصة في حال تناقص المخزون الإستراتيجي لصواريخه. وليس بسرّ أنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يريد الجلوس على طاولة المُفاوضات مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين اليوم قبل الغدّ، لأنّه يعرف أنّ الوقت ليس لصالحه. وبالتالي، يُمكن لأوكرانيا اليوم تحصيل مكاسب أفضل في أي تسوية مُحتملة، مُقارنة بما سيكون الوضع عليه في حال نجاح الجيش الروسي بإطباق الخناق على كييف، تمهيدًا لإسقاطها، بغضّ النظر عن كلفة هذه الخُطوة.

من جهة أخرى، من المَعروف أنّ كل يوم إضافي للحرب له إنعكاسات سلبيّة جدًا على الإستقرار العالمي، وعلى أسعار العديد من المواد والسلع الأساسيّة في حياة مُختلف الشُعوب. وإذا كان صحيحًا أنّ العُقوبات القاسية التي فرضها الغرب على روسيا، ألحقت أضرارًا كبيرة في الوضعين الإقتصادي والمالي لهذه الأخيرة، فإنّ الأصحّ أنّ موجة الغلاء طالت العالم أجمع بنسبة لا تقلّ عن 20 إلى 30 %، وذلك على العديد من الحاجيّات الأساسيّة. وكلّما طالت هذ الحرب، ستكون الفترة المَطلوبة لتعافي الإقتصاد العالمي أطول، حتى بعد توقّف القتال، ناهيك عن أنّ معارك شدّ الحبال بين روسيا والعديد من الدول الغربيّة ستنتقل إلى ملفّات ساخنة أخرى، منها ملفّات عدّة في الشرق الأوسط. وفي لبنان، وإضافة إلى موجة الغلاء التي لم يعد لأغلبيّة اللبنانيّين القُدرة على تحمّلها، إنّ تقدّم الحرب في أوكرانيا، والإنعكاسات التي تركتها في موضوع اللاجئين وغيره، جعلَ الملف اللبناني في غياهب النسيان، وقلّص كل الأمال بحُصول لبنان على مُساعدات من المُجتمع الدَولي في المُستقبل القريب.

وكما أنّ إحتمال نجاح الجيش الروسي في إحكام حصاره على كييف وارد، شأنه شأن إحتمال إسقاطها بعد بضعة أسابيع، في حال منع الإمدادات عنها كليًا، فإنّ إحتمال صُمود كييف لأشهر طويلة وارد أيضًا، شأنه شأن إحتمال إستمرار عمليّات قتال وإستنزاف الجيش الروسي في مُختلف مناطق أوكرانيا، بغضّ النظر عن مصير العاصمة.

فهل لبنان قادر على تحمّل إرتدادات سيناريوهات إستمرار الحرب في أوكرانيا لفترة طويلة، أو تحوّلها إلى حرب إستنزاف للجيش الروسي كما حصل معه في أفغانستان قبل ثلاثة إلى أربعة عُقود؟ المُؤشّرات كلّها تدلّ على أن لا قُدرة للبنانيّين على تحمّل المزيد من الويلات التي تتساقط على رؤوسهم من كل حدب وصوب!.