"إعرَفْ نفسَك[1]". عِبارَةٌ شَهيرَةٌ مَنقُوشَةٌ على واجِهَةِ مَعبَدِ Delphes في اليونان، مِن القرنِ الرَّابِعِ قَبلَ الميلاد، تَبَحَّرَ بِها سقراط[2]. هيَ تأتي في سِياقِ بَحثِ الإنسانِ مُنذُ القِدَمِ، لاكتِشافِ ذاتِهِ وحقيقَةِ وُجودِه، واكتِسابِ الحِكمَةِ والفَرَح.

هذهِ العِبارَةُ بِصِيغةِ الأمر، فكاتِبُها يُشيرُ إلى وُجودِ كَنزٍ عَميقٍ داخِلَ الإنسانِ وعليهِ اكتشافُهُ، كأنّهُ بِذَلِكَ يَقول: ما نفعُنا إن عرَفْنا كُلَّ العُلومِ وجَهِلنا ذَواتِنا؟.

وقد طَرَحَ سُقراطُ في مَعرِفَةِ الذَّاتِ سُؤالَين أَساسيَّين: ماذا سنجِدُ عندَ اكتِشافِ ذَواتِنا[3]؟ وما هي الوَسيلَةُ لذلك؟

وَحاوَلَ أن يُجيبَ عَبرَ "وِلادَة النَّفس La Maïeutique " نِسبَةً للإلَهَةِ الإغريقِيَّةِ Maïa التي يَعني اسمُها "الأُمّ الصَغيرة"، والتي كانَ يُعتَقَدُ أنَّها تَسهَرُ على وِلادَةِ الأطفال.

وكان سُقراطُ يَعتَبِرُ أنَّه، بِحِوارِهِ مَعَ تَلامِيذِهِ، يَجعَلُهُم يَكتَشِفُونَ الحَقائِقَ الكامِنَةَ داخِلَهم، مُشَبِّهًا نفسَهُ بِقَابِلَةِ النُّفوس. واعتَبَر أنَّ الاستِجوابَ الأهَمّ يَحصَلُ داخِلَ الإنسانِ، مَعَ ذاتِه، ولا مَعنًى للحَياةِ بِدُونِ ذلك. وجُملتُهُ الشَّهيرَةُ "أنا لا أعرِفُ شَيئًا"، تأتي ضِمنَ هذا البَحثِ الّذي لم يَصِلْ إلى نِهايَتِهِ.

إنّه في الحَقيقَةِ بَحثٌ دائِمٌ عَنِ الكَمالِ والسَّلامِ الدَّاخِليّ.

تُرى، مَا هُوَ هَذا الشَّيءُ في داخِلِنا؟ الجَوابُ في ما قَالَهُ مُخَلِّصُنا: "مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ[4]".

أمّا "بِأيَّةِ وَسيلَةٍ نَكتَشِفُ ذَواتِنا؟" فنُجيبُ عن هذا السُّؤالِ، وبَعيدًا عَن كُلِّ تَحدٍّ: هذا الاكتِشافُ يَصِلُ إلى مِلئِهِ في الرَّبِّ يَسوعَ، لأنَّ روحَ الإنسانِ مِنَ الله. فإمَّا أن يعيشَ الإنسانُ بِروحِ اللهِ، وإمَّا بِروحِ العالَم. الفَرقُ كَبيرٌ، والثِّمارُ مُختَلِفَة. والبَحثُ عن هَذا الرُّوحِ المُحيي والمُحرِّكِ في العالم Anima، شَغِلَ بَالَ كَثيرينَ مُنذُ القِدَم. الأمثِلَةُ عَديدَةٌ في هَذا المِضمَار، وقد يَكونُ مِن أشهَرِها: كتابُ "النفس On the Soul/De Anima " لأفلاطون (٣٥٠ ق.م).

وفي السِّياقِ ذاتِه، يَقولُ الفَيلسُوفُ الألمانيّ Friedrich Nietzsche، في مُؤلَّفِهِ La Généalogie de la Morale سَنة ١٨٨٧م: "نَحنُ، الباحثينَ عنِ المَعرِفَةِ، غُرباءُ عن ذَواتِنا، لِسببٍ وَجيهٍ أنَّنا لم نَبحَثْ يَومًا عن ذَواتِنا. كَم يكونُ الحَظُّ إلى جانِبِنا يومَ نَكتَشِفُ ذواتِنا".

ويُتابِعُ: "لقد قِيلَ بِحَقٍّ: "أينَ يُوجَدُ كنزُكُ، هُناكَ أيضًا قَلبُك" مُشيرًا إلى ما قَالَهُ يَسوع[5]. ويوضِحُ: "كنزُنا هُوَ المَكانُ الّذي تُوجَدُ فيهِ قِفارُ مَعرِفَتِنا"، مُشَبِّهًا الإنسانَ بِالنَّحلِ الباحِثِ على الدَّوامِ عَن "عَسلِ الرُّوح"، وشَارِحًا أنَّ تَخزينَ هذا العَسلِ هُوَ الأمرُ الأهمّ. ويَسألُ: "مَن مِنّا يَأخُذُ تَجارِبَ الحَياةِ على مَحمَلِ الجَدِّ؟ ومَن مِنَّا عِندَهُ الوَقتُ لِذَلك؟"، ذاكرًا أنَّ قلبَ الإنسانِ غَائبٌ، وكَذَلِكَ إصغاؤه، حتّى إنّنا نتساءلُ "ما هذا الّذي مَرَرنا بِهِ بِالضَّبط؟".

كُلُّ هذا بحثٌ تِلو الآخَرِ، وشَوقٌ إلى الرَّاحَةِ والكَمَالِ لا يُضاهيهِ شَوقٌ.

فنقولُ لِـ"نيتشه" وغَيرِهِ: قَد يَكونُ حَصَلَ أمرٌ ما أَعثَرَكُم في الكَنِيسَةِ، أو حَدَثت مَعَكُم أو مَعَ سِواكُم أمورٌ مُعثِرة، وأنتُم مُحِقًونَ في رَفضِكُم للدِّينِ، بِالمَعنى الاستِهلاكيّ للكَلِمَة، ولكن مَا تَبحثُونَ عَنهُ مِن "عَسلِ الرُّوحِ"، ومَا بَحَثَ عنهُ قبلَكُم على مَرِّ التَّاريخِ، ومَن لا يزالون يَبحَثون، جَوابُهُ واحِدٌ: "يسوع".

فأفلاطُون في مُؤلَّفِهِ "Le Banquet / Sumpósion"، الذي يتكلَّمُ فيهِ على الطَّبيعَةِ والحُبِّ، أو بِالأحرَى العِشق (Eros)، يَذكُرُ أنَّ نفسَ كُلِّ إنسانٍ حُبلى، وتَرغَبُ في أن تَلِدَ، وهَذهِ الوِلادَةُ لا يُمكِنُ أن تَتِمَّ إلّا بِالجَمالِ، لِكَي تُعطي خِطابَاتٍ جميلةً، مُشَبِّهًا الحُبَّ بِساحرٍ دائمِ التَّجَوُّلِ إذ لا مَلجأَ لهُ يأويه، فهوَ يفتَرِشُ قارِعَةَ الطَّريقِ وعَتبَاتِ المنازَلِ، وينامُ في العراء تحت النجوم، وهُو الفَقيرُ المُعدَم. ويُشبِّهُه أيضًا بِصَيّادٍ ماهِر، يَبحَثُ عن كُلِّ ما هُوَ جَميلٌ، وهو حَازمٌ جِدًّا. وهُوَ الخُلودُ الّذي يُوَلِّدُ استِمرارِيَّةَ الحَياةِ، ويَجمَعُ المائِتِينَ بِغَيرِ المَائِتِين.

كَلامُ أفلاطُونَ هذا بَحثٌ عن إلَهٍ مُخَلِّصٍ، وهَذا المُخَلِّصُ أتَى واسمُهُ يَسوع.

هُنا تُجيبُنا القِدّيسَةُ مَريمُ المِصريَّةُ مِن خِلالِ سيرَتِها، وهِيَ الّتي تُخَصِّصُ الكَنيسَةُ الأُرثُوذُكسيَّةُ الأحَدَ الخامِسَ مِنَ الصَّومِ لِتّذكارِها.

عَاشت مَريمُ في الإسكَندَرِيَّةِ، بَعدَ أن تَرَكت والِدَيها وهي في الثَّانِيةَ عَشرَةَ مِنَ العُمرِ، مُسَلِّمَةً نَفسَها للدَّعارَةِ، عاشِقَةً للفُجُور.

ذَهَبت يَومًا إلى الأراضِي المُقَدَّسَةِ في سَفينَةٍ مَليئَةٍ بالحُجَّاج. قِيلَ إنَّها كانت تبحَثُ عن زَبائِنَ جُدُدٍ في مَدِينَةٍ جَديدة، بِخاصَّةٍ أنَّ أُورَشليمَ كانَت ذَائِعَةَ الصّيت. ولَكِن ما هُوَ مُؤَكَّدٌ أنَّ الرَّبَّ كان يُريدُ مِنها شَيئًا جَدِيدًا ومُختَلِفًا. كان يُريدُها أن تَعبُرَ مِن أيقُونَةٍ للسُّقُوطِ والعُهرِ، إلى أيقُونُةٍ للخَلاصِ والتَّوبَةِ، وتُولَدَ وِلادَةً جَديدَةً مُحيية، لَها ولِلآخَرِين.

فَبَعدَ وُصولِهَا إلى المَدينَةِ، وإغوائها مَن شاءت مِنَ الرِّجالِ، خَطَرَ لها الدُّخولُ إلى الكَنيسَةِ حَيثُ كانَ الصَّليبُ المُقَدَّسُ يُرفَعُ أمامَ المُؤمِنين. وعِندَ البابِ صَدَّتْها قُوَّةٌ غيرُ منظُورةٍ، ومَنَعَتها مِنَ الدُّخُول. كَرَّرَتِ المُحاولةَ لكنَّها لم تُفلِحْ.

عِندَها أَدرَكَت حَقيقَةَ انحِرافِها، وتَابَتْ تَوبَةً عَظيمَةً، وبَكَت وهي تَنظُرُ إلى أيقُونَةٍ لِوَالِدَةِ الإلهِ فَوقَ رأسِها، فعاهَدَتْها بِصِدقٍ أن تَحيا حياةً جَدِيدة، عِندَها استَطاعَت دُخولَ الكَنِيسَةِ، والسُّجودَ للصَّليبِ، كما سَمِعَت صَوتًا في قَلبِهَا يَطلُبُ إليها أن تَقصِدَ بَريَّةَ الأُردُنِّ لِتَجِدَ خَلاصَها.

وهَكذا كانَ، ورَقَدَت بَعدَ حَوالى خَمسٍ وأربَعِينَ سَنةً مِنَ الجِهادِ هُناكَ، بعدَ أنِ التَقَتْ بِراهِبٍ يُدعَى زُوسِيما، نَاوَلَها القُدُسَات.

صَحيحٌ أنَّ الخَطيئَةَ كانَت تُعَشِّشُ فيها، وصَحيحٌ أنَّ طَريقَها كان مُعوَجًّا، وصَحيحٌ أنَّ الشَّياطِينَ كانَت تَرقُصُ مِن حولِها مُهلِّلَةً لِحَفلات المُجُونِ والدَّعارَةِ الّتي كانَت تَقومُ بِها، وصَحيحٌ أنَّ الصَّخَبَ كان يَملأ حياتَها، إلّا أنَّ صَوتَ الرَّبِّ كانَ اقوى مِن كُلِّ ضَجيجِ الخَطايا الّتي كانَت تَقتَرِفُها، وفي لَحظَةٍ أعلَنَ لها مُخَلِّصُنا "إِنَّهُ وَقْتُ عَمَلٍ لِلرَّبِّ.[6]"

ففجَّرَ يَسوعُ جَحيمَها، وخَلَعَ أبوابَ ظُلمَتِها، وبَزَغَ النُّورُ مِن سَوادِ لَيالِيها الحالِكَةِ، مُبَشِّرًا بِفَجرِ قِيامَتِها، فأزاحَ حَجَرَ ثِقَلِ فُجورِهَا لِتَخرُجَ مِن قَبرِ خَطاياها، وتَدخُلَ أورَشليمَ السَّماوِيَّةَ، وتَكتَشفَ أنَّها ابنَةُ اللهِ بِالتَّبنِّي، وتَعرِفَ الفَرحَ الحَقيقيَّ الّذي حوَّلَ مِياهَها العَكِرَةَ إلى خَمرٍ جَدِيدَة. فاستَقَت مِنها، وسَقت كُلَّ مَن طَالَعَ سِيرَتَها. وهَكَذا انضَمَّت مَريمُ إلى مَائِدَةِ اللهِ المُقَدَّسَةِ وعُرسِهِ البَهيّ، بَعدَ أن غَسلَ الإلَهُ، الحَمَلُ المَذبوحُ مِن قَبلِ إنشاءِ العالَمِ[7]، بِدَمِهِ، خَطايَاها.

هذا هُوَ "عَسلُ الرُّوحِ": "ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ![8]"

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] "CONNAIS-TOI TOI-MÊME"

[2]- 470-399 BC

[3] Pour y trouver quoi?

[4] - لوقا ٢١:١٧

[5] - "لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا." (متى ٢١:٦)

[6] - مزمور ١٢٦:١١٩

[7] ـ رؤيا ١٢:٥

[8] ـ مزمور ٨:٣٤