لا حديث يعلو على حديث الانتخابات في لبنان هذه الأيام. يبدو ذلك أكثر من طبيعي، بعدما دخلت البلاد عمليًا "شهر الاستحقاق"، وبالتالي بدأ "العدّ التنازلي" لليوم الموعود، وبعدما اكتملت كلّ التحضيرات له، لوجستيًا على صعيد تحديد الأقلام وتجهيزها، وسياسيًا على صعيد تسجيل اللوائح، وتكثيف المهرجانات، والحملات الدعائية المستمرّة.

لكنّ ما لا يبدو طبيعيًا، وسط كلّ ذلك، يبقى في أنّ موجات "التشكيك" بحصول الانتخابات في موعدها لا تزال متواصلة، من دون كلل أو ملل، حتى مع دخول الشهر "الحاسِم"، في ظاهرة تبدو "غير صحية" على الإطلاق، فضلاً عن كونها تلعب دورًا في "التشويش" على الحملات الانتخابية، مع ما تستدعيه من حالة "فوضى وضياع" في المشهد العام.

وقد اضطرت هذه الحملات، التي تتنوّع وتتفاوت، ويتداخل فيها العامل التقنيّ، ربطًا بالكهرباء وإضرابات الأساتذة والقضاة، مع العامل السياسي، ربطًا بغياب الحماس والخوف من النتائج، رئيسي الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي، إلى التأكيد مرّة أخرى في آخر جلسات مجلس الوزراء، أنّ الانتخابات ستجري في موعدها، وقد أقرّت الاعتمادات اللازمة لذلك.

فما "سرّ" التشكيك المتواصل بحصول الانتخابات رغم الوقت الضيّق الذي بات يفصل عنها، والذي يفترض أن يملأه المرشحون بالحشد والتعبئة، تحضيرًا لـ"اليوم الموعود"؟ ومن يقف وراء ضخمّ هذا الكمّ من السيناريوهات الافتراضية والإشاعات؟ وهل لا يزال "سيناريو" التأجيل واردًا، أم أنّ هناك من يسعى لتطبيق "السيناريو الليبي" على الساحة اللبنانية؟.

الأكيد حتى الآن أنّ موجات "التشكيك" بحصول الانتخابات لا تزال "طاغية" على المشهد العام، وقد تجلّت في أكثر من محطة هذا الأسبوع، وتركّزت في تسريبات صحافية "مجهولة المصدر"، أو ربما "معلومة"، بدأت بالحديث عن حراكات مطلبية من شأنها التأثير على الانتخابات، في مقدّمتها إضراب الأساتذة واعتكاف القضاة، مع الدور الموكل لهؤلاء في تنظيم العملية الانتخابية، علمًا أنّ مثل هذه "الحراكات" ليست جديدة في تاريخ الانتخابات في لبنان.

وفي الساعات الأخيرة أيضًا، زاد الحديث عن "سيناريو" التأجيل إعلاميًا، من خلال الإشارة إلى أنّ دبلوماسيّين غربيّين باتوا يتحدّثون صراحة عن هذا الاحتمال، بل إنّ البعض سعى للترويج إلى أنّ بعض المجتمع الدولي لم يعد يريد أن تحصل الانتخابات، بعدما أظهرت استطلاعات الرأي تقدّمًا لفريق "حزب الله"، وهو ما استدعى برأي كثيرين "الانفراجة الخليجية"، لعلّ عودة السفراء تنجح في "تعديل" موازين القوى، بالحدّ الأدنى المُتاح.

لكنّ كلّ ما سبق، وفق ما يقول المعنيّون، لا يمكن أن يكون "سببًا جوهريًا" يبرّر تأجيل الانتخابات، أو إلغاءها حتى كما يروّج البعض، حيث إنّ الانتخابات باتت "أمرًا واقعًا"، لا يمكن "تجاوزه" سوى في حال وقوع حدث كبير من خارج سياق التوقعات والأحداث، على أن "يتوافق" جميع الأفرقاء بنتيجته على تأجيل الانتخابات، وهو احتمال يبدو بعيدًا جدًا في الوقت الحالي، بالنظر إلى دخول كلّ الأطراف أجواء "المعركة"، بعيدًا عن أيّ "صفقات" محتملة.

وقد يكون إطلاق الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، عملية المراقبة الدولية للانتخابات في لبنان، عاملاً "مضادًا" لكلّ ما تقدم، فهو يُظهِر اهتمام الأوروبيين بالاستحقاق المنتظر، ما يدحض كلّ الفرضيات والنظريات عن أنّهم صرفوا النظر عن الانتخابات، ولو أنّ البعض "يفصل" بين الشقين السياسي والتقني، باعتبار أنّ عملية المراقبة قد تكون في حيّز منها "أمرًا روتينيًا" تلقائيًا، طالما أنّ احتمال إجراء الانتخابات في موعدها قائم.

وبمُعزَل عن النقاش "غير الصحي" حول إجراء الانتخابات من عدمه، في ظلّ خشية البعض من "استنساخ" سيناريو ليبيا، حين حان موعد الانتخابات المحدَّد، ومرّ كأيّ يوم عاديّ، من دون أن تتكبّد السلطات أساسًا عناء إعلان التأجيل، فإنّ الواضح أنّ "الحماوة الانتخابية" باتت على أشدّها، في معظم الدوائر الانتخابية، وقد تجلى ذلك في الأيام الأخيرة من خلال ارتفاع سقف الخطاب، وتبادل بل تراشق الاتهامات بين مختلف المتنافسين.

وفي هذا السياق، يبدو لافتًا أنّ معظم الأحزاب، التي تقف على الأرجح وراء ضخّ الإشاعات عن تأجيل الانتخابات، تتعاطى مع الاستحقاق كأنّه "حاصل حتمًا"، وهي استحضرت كل "أدوات" المعركة الانتخابية التقليدية، القانونية منها وغير القانونية، حيث لا تتوانى عن استخدام كل "الأسلحة" في سياق "تهميش" خصومها، أو "ترغيب" جمهورها، ولا سيما المتردّد منه، عبر تحويل الانتخابات إلى "استفتاء" متى دعت الحاجة.

وفي السياق نفسه، يبرز "حراك السفارات" إن جاز التعبير، والذي تزامن مع عودة سفراء الدول الخليجية إلى لبنان، والذي ترجم سريعًا على شكل إفطارات وولائم ولقاءات واجتماعات، بينها ما هو معلن، وما بقي "سريًا"، وقد بدت الانتخابات أكثر من حاضرة على خطّها، رغم إعلان الدبلوماسيين أنّ دولهم لا تتدخل في الاستحقاق بوصفه شأنًا سياديًا، وهو ما بدا "متناقضًا" إلى حدّ بعيد مع بعض الممارسات، فضلاً عمّا يسرَّب عنها.

في النهاية، فإنّ الأكيد أن "الحماوة" الانتخابية تبقى جزءًا طبيعيًا من المشهد، ولو استُحضِرت على خطّها "أسلحة" غير ودية، والأكيد أكثر أنّ هذه "الحماوة" يفترض أن تزيد في الأيام المقبلة، ليترفع معها سقف الخطاب السياسي أكثر وأكثر. لكنّ ذلك هو ببساطة من "ثوابت" الانتخابات في لبنان، لتبقى المشكلة في "التشكيك" المستمرّ، والذي لا "يبشّر بالخير"، فمتى تنتهي هذه "المهزلة"، ويكون اللبنانية أمام عملية انتخابية متكاملة؟!.