سألَ الرَّبُّ يسوعُ المسيح تلاميذَه[1]: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ"؟، فأجابوه إنَّ أَجوبَةَ النَّاسِ تتوَزَّعُ بينَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ وإِيلِيَّا، أَو وَاحِدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ. عِندها سألَهم: "وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا"؟ فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ"!. فمَدَحَهُ يسوعُ قائلًا له إنَّ جَوابَهُ كَشفٌ إلهيّ، وتابَعَ: "أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا".

"الصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ[2]"، الذي فجَّرَ الجحيمَ وألغَى المَوتَ، وأَعطانا أن نَشربَ مَعَه مَشرُوبًا رُوحِيًّا واحِدًا وجَدِيدًا.

في حِوارِ الرب مَع بُطرُس وَرَدَ تَعرِيفَان لِيَسوعَ وهما في غَايَةِ الأَهميَّة.

التَّعريفُ الأوَّل: ما قالَهُ يسوعُ عن نفسِهِ "ابْنُ الإِنْسَان"، وهُو في النُّبوءاتِ المَسيحُ المُنتَظَر، الّذي تتعَبَّدُ له كُلُّ الشُّعوب، وسُلْطَانُهُ أَبَدِيٌّ وَمَلَكُوتُهُ لاَ يَنْقَرِضُ، كما جاءَ عِندَ دَانيالِ النبي[3].

فابنُ الإنسانِ هُوَ ابنُ العَليّ وابنُ المُبارَك. هذا ما أَثارَ جُنونَ رَئيسِ المَجمَعِ اليَهودِيّ، وشَقَّ ثِيابَهُ عِندَما طَبَّقَ الربُّ يسوعُ هذا اللَّقبَ على ذاتِهِ للإشارَةِ إلى أنَّه "هُوَ" مُتَمِّمُ كُلِّ النُّبوءاتِ: "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ"؟ فَقَالَ يَسُوعُ: "أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ[4]".

وقد أعطى يَسوعُ لقبَ "ابن الإنسانِ" مَفهومَه الخَلاصيّ التَّام، واستَعمله في غُفرانِ خَطايا المَفلُوجِ وشِفائه[5]، وفي كلامِهِ مَعَ نيقودِيمُوسَ المُعلِّمِ اليَهوديّ الَّذي أتاهُ ليلًا: "وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ[6]". ووَبَّخَ يَسوعُ اليَهودَ لِعَدَمِ إدراكِهم بأنَّهُ المُنتَظَر، وبِأنَّهُ أعظمُ مِنَ الهَيكَلِ، و"ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ[7]" أي ربُّ الشَّريعَةِ والنَّاموسِ وواضِعُهُما.

كما أنَّ حِوارَ الرَّبِّ مَعَ نَثنائيلَ، أتى مُجَلجِلًا: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ[8]".

ولا نَنسى أنَّ يَسوعَ -ابنَ الإنسان- هُوَ الديَّانُ العادِلُ، الّذي "يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ[9]"، ويَفصِلُ الخِرافَ عنِ الجِداء[10]. فابنُ الإنسانِ هُوَ الزَّرعُ الجَيّدُ الّذي "يُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ"، و "يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّار[11]".

وقد يَكونُ أجملُ ما قالَهُ يسوعُ عن ابنِ الإنسانِ بِأنَّهُ المُخلِّصُ الفادِي[12] "جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَك[13]"، و"مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ[14]".

وإذا سألنا: مَا الّذي سَنفهَمُه؟ يُجيبُنا يَسوعُ كما أَجابَ اليَهودَ عِندَما سَألُوهُ مَن أنت: "أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِهِ".[15] أي قبلَ أن يَتجَسَّدَ، فَقد تكَلَّمَ مَعَ الإنسانِ الأوَّلِ، ومَعَ إبراهيمَ واسحَقَ ويَعقُوبَ وجَميعِ الأنبِياء. مِن هُنا قالَ للفَرّيسيّين "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ[16]".

التَّعريفُ الثَّاني: "ابْنُ اللهِ الْحَيِّ". هذا يَعني أنَّ يَسوعَ واحِدٌ مَعَ الآبِ في الجَوهَر. وعِندما أَصبَحَ إنسانًا بَقِيَ إلهًا بالطَّبع. فالآبُ والابنُ والرُّوحُ القُدُسُ إلهٌ واحِدٌ، وليسَ ثَلاثَةَ آلِهَةٍ إطلاقًا. وتبقَى الكلِماتُ البَشريَّةُ، مهما سَمَت، عاجِزةً عن وَصفِ الطَّبيعَةِ الإلَهِيَّةِ الواحِدَةِ للأقانِيمِ الثَّلاثة.

هذا هُوَ إيمانُنا، وهَذا هُو إلهُنا. والأَحَدُ الأوَّلُ بَعدَ الفِصحِ، هُوَ أحَدُ الرَّسولِ تُوما، الّذي صَرَخَ وقالَ لِيَسوعَ بعدَ أن ظَهرَ لهُ وللتَّلاميذِ:" رَبِّي وَإِلهِي".

صَرخَةُ تُوما هَذِهِ تَحمِلُ التَّعريفَين أَعلاه بِمِلئهما.

هِيَ صَرخَةُ البَشرِيَّةِ جَمعَاءَ، في الماضي والحاضرِ والمُستَقبَل.

هِيَ صَرخَةُ كُلِّ نَفسٍ، لأنَّها تَبحَثُ عن خَالِقِها ولا تَرتَاحُ إلّا فِيه.

هِيَ مُشتَهى الأجيالِ قَاطِبَةً على مَرِّ كُلِّ الأزمَان.

وكمَا جَذَبَ يَسوعُ توما إلَيهِ وأراهُ جِراحَهُ، كذلِكَ يَجذِبُ الجَميعَ، كما سبَقَ وقالَ لَنا "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ (صُلِبتُ) عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ[17]".

فلا عَجَبَ إذًا، أن نَجِدَ حادِثَةَ شَكِّ تُوما، فِي الفَنِّ الكَنَسيّ مِن القَرنِ السَّادِس الميلادِيّ، وذلك لِما لَها مِن أَهميَّةٍ لِكُلِّ إنسان، إن في فُسيفَساء في بَازيليك القِدّيسِ أبُوليناريوس في رافين Saint Apollinare Nuovo à Ravenne، أو في ما يُعرَفُ بـ"قارُورات [18]Monza-Bobbio"، وهِي قارُوراتٌ يَجلِبُها مَعهُم الحُجَّاجُ مِنَ الأرَاضي المُقَدَّسَةِ كتَذكارَاتٍ، نُقِشَت عليها أَحداثٌ إنجيليّة.

في النِّهايَةِ، وَجَدَ توما إلهَهُ، كَذَلِكَ فَعَلَ الرُّسُلُ الأطهَارُ والقِدّيسُون. ولكنَّ هذا لا يَنفي ما مَرُّوا بِهِ مِن تَجارِبَ روحيَّةٍ، قبلَ أن يَثبُتُوا في المَسيحِ. وكُلٌّ مِنَّا، يُواجِهُ صُعوباتٍ رُوحيَّةً، ويَطرَحُ جَمًّا مِنَ التَّساؤلاتِ، أَقرَّ بِذلِكَ أَم أَنكَر.

وهُنا نُورِدُ اعتِرافًا وإعلانًا مِنَ الأدِيبِ الفَرَنسيّ الكَبيرِ Jean-Jacques Rousseau، عِندَما كانَ يَقومُ بِتَفَحُّصِ عُمقِ ذاتِهِ، للبَحثِ عنِ السَّعادَةِ القَلبِيَّة، فيقول: "أَعرِفُ وأَشعُرُ أنَّ القِيامَ بَعَملٍ حَسَنٍ (faire du bien)، هُوَ أَكبَرُ فَرَحٍ يُمكِنُ لِقَلبِ الإنسانِ أن يَشعُرَ به".

فَكيفَ، بِالأحرى، يكونُ حالُ الإنسانِ عِندَما يَجِدُ مَصدَرَ كُلِّ حُسنٍ، ألا وَهُوَ المَسيح، وهذا، للأسَفِ، ما لم يَتلَفَّظَ بهِ هذا الشَّاعر.

إنَّها لَخَسارَةٌ كَبيرَةٌ أن يَمُرَّ عُمرُنا دونَ أن نصرُخَ صَرخَةَ توما، حَتَّى لو شَكَكنا في بَادِئِ الأمر.

وأَختُمُ بِقَولٍ لِشاعِرٍ فَرنسيّ آخَرَ، هُو Victor Hugo: "فِي العُمقِ، اللهُ يُريدُ مِنَ الإنسانِ ألّا يُطيعَ، لأنَّ عَدَمَ الطَّاعَةِ بَحثٌ[19]".

وإن تناوَلنا النَّاحيةَ الإيجابيَّةَ لهذا القولِ نَستَنتِجُ أنَّ اللهَ يُريدُنا أن نَكتَشِفَهُ، وألّا يَكونَ إيمانُنا بَبغائِيًّا، وهو يَسألُنا كَما سألَ تَلاميذَهُ: "وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا"؟.

إلى الرَّبِّ نَطلب.

[1] ـ متّى ١٣:١٦-١٨

[2] ـ ١كورنثوس ٤:١٠

[3] ـ دانيال ١٣:٧-١٤

[4] ـ مرقس ٦١:١٤-٦٢

[5] ـ متى ٩: ٢-٦

[6] ـ يوحنا ٣: ١٣

[7] ـ متى ٦:١٢-٨

[8] ـ يو١: ٤٨-٥١

[9] ـ متى ٢٧:١٦

[10] ـ متّى ٣١:٢٥

[11]ـ متى ٣٦:١٣-٤١

[12]ـ متى ٢٢:١٧-٢٣ «ابْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ، فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ».

[13]ـ متى ١١:١٨

[14]ـ يوحنا ٢٨:٨

[15]- يوحنا ٢٥:٨

[16] ـ يوحنا ٥٨:٨

[17] ـ يوحنا ٢٣:١٢-٣٣.

[18] - They have been in the Treasury of Monza Cathedral north of Milan, and Bobbio Abbey, since they were donated by Theodelinda, queen of the Lombards, (c. 570–628).

[19] - « Au fond, Dieu veut que l'homme désobéisse. Désobéir c'est chercher. » Victor Hugo