مِن عَبقَريَّةِ الرَحمَنِ يَستَمِدُّ ​لبنان​ُ مَجالَ فِعلٍ ولا أروَع: التآخي. يُرَسِّخُهُ ليَجعَلَ مِنهُ لا مَفهوماً فَحَسب بَل واجِباً بِهِ يَتَشَعبَنُ شَعبٌ، أيُّ شَعبٍ.

لا! لَيسَت السياسَةُ هي الأساسُ، ولا قَصدُ المُنتَهى. في ما هي غايةٌ لإدارَةِ مُجتَمَعٍ وِفقَ نِظامِ مُساواةٍ وَحُريَّةٍ، تَبقى إرتِقاءً يَدحَضُ العُزلَةَ.

أهيَ إبتِغاءُ مَناصِبَ؟ هُنا فَشَلُها إذ تَغدو مُعادَلاتِ تَطاحُنٍ. ولا أُريدُ أن أقصِدَ الأقصى، حَيثُ سُقوطُها الأكبر مَتى إنتَهَت هَوَساً بالتباري في إقتِناصِ تَلقيناتٍ مِن خارِج، أو في الإستِكبارِ حَدَّ إستِعلاءِ الدُنيَويَّاتِ الى مَقاصِدَ الدِينِ.

لا! لُبنانُ ما ألَّهَ يَوماً السياسَةَ ولا المُتَسيِّسينَ. هو ضَحية مَن يؤلِّهونَ جَلاّديهِم بإسمِ هَرطَقاتٍ لَيسَت مِن دِينٍ ولا مِن نِطاقِ دِينٍ بَل مِن إلحادٍ صِرفٍ، إلحادِ الإستِعبادِ حَيثُ المُتَحَكِّمُ، مَوضِعَ تَبجيلٍ وتَبخيرٍ.

قُلنا عَبقَريَّةَ الرَحمَنِ؟! أجَل. مِنها، المَسيحيَّةُ والمُحَمَديِّةُ في لبنانَ سارَتا نَحو عُمقِ الصُحبَةِ، وَمِنها إرتَفَعَتا بالوجودِ الى نِضالِ التآخي، حَيثُ المَسيحيُّ اللبنانيُّ، في أصالَتِهِ، يَغدو المُدافِعَ الأوَّل عن الإسلامِ، والمُحَمَديُّ، في أصالَتِهِ، يَنبَري مُدافِعاً حَقَّاً عَن المَسيحيَّةَ. أرِسالَتانِ لِلبنانَ؟ لا بَل واحِدَةٌ بِتَجَرُّدَينِ، بِجِهادَينِ.

ألا أُنظُر الى قارَّةٍ عَجوزٍ تَدَّعي خَطَّ مَناهِجَ الحَداثَةِ وَسَبرَ أغوارِها، كَيفَ تَتَخَبَّطُ في مَنعِ إرتِداءِ حِجابٍ أو التَساهُلَ بِهِ في الأماكِنَ العامَّةِ، كأنَّما الآخَرُ باتَ مُجَرَّدَ قِناعٍ، تُريدُهُ غَيرَ مُزعِجٍ لِقُصرِ رؤيَتِها.

ألا حَدِّق الى حُدودٍ باتَت مَتاريساً تَمنَعُ عُبورَ النورِ الى مَداخيل سُجونِها، خَوفاً مِن أن يَلمَحَهُ مَسجونوها فَيَنبَهِرونَ، كأنَّما حامِلُ النورِ باتَ عَدُّواً إذ وَلَّدَ فَضائِلَ، وَما المَطلوبُ إلَّا تأبيدَ أنانيَّاتِ الإنغِلاقِ.

واقعيَّةُ التآخي

مِن كَمالِ عَبقَريَّةِ الرَحمَنِ، يَستَمِّدُ لبنان تَناغُمَ الواقِعيَّةِ والمِثاليَّةِ. بِهِما يَكتَمِلُ تَعريفُ التآخي بَينَ الأنا والآخَرِ المُختَلِفِ، وَهو تَجَلٍّ مُلتَزِم الإنخِراطَ أكثَرَ فأكثَرَ في تَراكُماتِ العالَمِ، وَوَسطَ زَعازِعَ السياسَةِ وإنكِساراتِ الحُروبِ، لا لِغايَةٍ سِوى إعلاءِ عُمرانيَّاتٍ لا تَحصيلَ فَضائِلَ فَحَسب.

هكذا، فإنَّ غايَةَ وجودِ لبنانَ باتَت مَعلومَةٌ أكثَر: هو مَوجودٌ لِكَيما بِواقِعيَّةِ التآخي بَينَ المَسيحيَّةِ والمُحَمَديَّةِ التي فيهِ وَمِنهُ، يُحَرَّرُ الإنسانُ في العالَمِ، وَمِنَ العالَمِ، وَبالعالَمِ. بِجَسَدِهِ المُمَزَّقِ، يَرفَعُ إنسانُ هذا العالَمِ مِن سُقوطِ العالَمِ في التَهافُتِ على البائِدِ في الفَصلِ بَينَ الأنا والآخَرِ، وَعَلى السُجودِ لِمواجيدَ تِلكَ الخَطيئَةِ الإلغائيَّةِ.

فَلنَعتَرِف إذاً أنَّ عَبقَريَّةَ لبنانَ مِن عَبقَريَّةِ الرَحمَنِ. فَكَما الرَحمَنُ واحِدٌ وَبالرَحمَةِ يَسودُ، كَذَلِكَ لبنانُ واحِدٌ وَبالتآخي سيَادَتُهُ، والعالَمُ كَثرَةٌ. الرَحمَنَ مٌطلَقٌ، وَمِن مُطلَقِهِ لُبنانُ مُطلَقٌ كَذَلِكَ، والعالَمُ نِسبيٌّ. والرَحمَنُ ثابِتٌ وَكَذَلِكَ لُبنانُ، والعالَمُ غَيرُ ثابِتٍ. لذا كانَ لُبنانُ وَسيطاً بَينَ الرَحمَنِ والعالَمِ. مِن دونِهِ... العالَمُ، بِغُرورِ ذاتِهِ، غَير قادِرٍ إلَّا على الإنشِقاقِ عَلى ذاتِهِ، بِسَبَبٍ مِنَ الحِقدِ الذَميمِ فيهِ بَعدَما رامَ التَعَصُّبَ خاصَّتَهُ.

جاذِبيَّةُ تِلكَ العَبقَريَّةَ أنَّها لَيسَت نِظاماً سياسيَّاً وَلا تَبويباً شَرائِعيَّاً بَل عِناقاً قَصدُهُ الإنسانُ، وَلَو إقتَضى مُعانَقَةَ صُلبانَ العالَمِ لِبُلوغِ القيامَةِ.

أبِها يُكَفِّرُ لبنانُ عَن خَطيئةِ العالَمِ؟ بَل بِها... يَبقى لبنانُ وجودا يَتَحدّى العالَمَ بِواقِعيَّةٍ هي مِلءُ مِثاليَّتِهِ. وأكثَر فإنَّ العالَمَ لا قيمةَ لَهُ إن لم يَكُن بإتِّجاهِ هذا اللبنان. بِذَلِكَ المَسيحيَّةُ والمُحَمَديَّةُ في عِناقِ تآخيهِما اللبنانيِّ، إنطِلاقَةٌ واحِدَةٌ في صَميمِ مُستَقبَلِ العالَمِ.

تِلكَ هي لُبنانيَّتي!.

*الصورة المرافقة للنص هي للجامعة اليسوعيّة ويعود تاريخها الى العام 1900