الخَلقُ فَيضٌ، وَمِنهُ تَنبَثِقُ التَوالي في إتِّجاهِ كَثرَةِ المَواجيدِ. وَفي أساسِ فَيضِ الخَلقِ تَبقى المَحَبَّةُ. بِها يَغدو لبنانُ أرضَ ذاتِهِ في تَعادُلِيَّتِهِ مَعَ السَماءِ.

أنتَ مِن لبنانَ، إذاً انتَ في تَجَسُّدٍ دائِمٍ وَمُتلازِمٍ بَينَ الجَوهَرِ والوجودِ. هذا سِرُّ إرتقائِكَ الذي بِهِ لا أحَدَ أكثَرُ مِنكَ قادِرٌ على إدراكِ قَصدِ الحُريَّةِ. وَفي ذَلِكَ إكتمالُ إنسانِيَّتِكَ التي لا تَقومُ إلَّا مِن ذاتِها.

أنتَ مِن لبنانَ، هيَ تِلكَ صَخرَتُكَ التي تُعليك صَرحاً... مِن عَقلٍ وَمِن إيمانٍ، في وِحدَةٍ لا إنكِفاءَ فيها، وَفي إتِّحادٍ لا إنفِصام فيهِ.

أنتَ مِن لبنانَ، إذاً أنتَ مِلء الحاضِرِ دَعامَةُ الآتي. مِن دونِكَ، العالَمُ عَهدٌ مَختومٌ لَيسَ لِماضيهِ مِن آتٍ، مُقفَلٌ حَتَّى بِوَجهِ إطلاقِ حُكمِ عَدلٍ بِحَقِّهِ. مِعنى ذَلِكَ، أنَّهُ مِن دونِكَ، العالَمُ عَرَضٌ، كَسيراتٌ لا دَلالاتَ فيها إلَّا بِبعضِ نِسبيَّاتٍ الى تَفَتُّتِ عَبَثٍ... في تَكابُرٍ على الخالِقِ، والخالِقُ هو الله. مِن دونِهِ، كُلُّ شَيءٍ الى مِوتٍ. الى فَناءٍ.

مِن أينَ يَبدأ لبنانُ؟ مِن صِرخِةِ: "الحَقيقَ أقولُهُ لَكُم!" مِن هَذا الوجوبِ الذي إتُّخِذَ لَهُ من بَيروتَ "الأمّ المُرضِعَةُ القَوانينَ"، كَما مِن بيبلوسَ حاضِرَة الألوهَةِ-الثالوثَ"، وَصورَ رائِدَة حاضِراتِ المَجدِ، وَصيدا بانيَة العُقولِ الفاعِلَةِ في ريادَةِ العُلومِ، الى بَعلبَكَّ الفائِقَة القُدرَةِ في الجَمالِ المُتَفَعلِنِ بِعَظَمَةِ المؤمِنِ. قُلّ: في الواجِبِ المُقبِلِ مِن فَوق ليَتَحَقَّقَ في موجَبٍ لَهُ هو المَدى الإنسانيَّ، وَقَد تَحَوَّلَ إنضِوائيَّاً بِفِعلِ لبنانَ.

هَكذا خَلَقَ لبنانُ في الوِجدانِ الإنسانيِّ عامَّةً كَما في ضَميرِ كُلِّ إنسانٍ، صِراعاً بَينَ المَشيئَةِ والقَلبِ، لا تِناقُضاً، مآلُهُ تأديَةُ الحَقِّ في وِحدَةِ المَشيئَةِ والقَلبِ... بالإنجِذابِ مِنَ الأمامِ الى الغايَةِ، تِلكَ التي تَتَّجِهُ صُعوداً نَحوَ اللهِ.

بَينَ الحَدِّ والبُرهانِ، نَمَت إثينا عَلى فَلسَفَةِ فينيقيا التي تَعَهَّدَتها روحاً وَمَعرِفَةً مُنذُ طاليس، المُتَحَدِّرِ مِن اجينور وَقدموس، فأثمَلَتِ المَشيئَةَ بالأساطيرِ. وَبَينَ الإنسِحاقِ والطَبيعَةِ، نَمَت أورشَليمَ حَدَّ فينيقيا وَبُرهانِها التي عَهَدَت لَها بالمَعرِفُةِ والروحِ مُنذُ طور البيبلوسيِّ، كاهِنَها الأعظَم، فأثمَلَتِ القَلبَ بالتَرَوحُنِ.

وَحدُهُ لبنانُ، حَدَّدَ مَشيئَةَ الأنا حَيالَ لاقَلبِ اللأانا، فَهَدَرَ مِن أقصى القَصِيَّاتِ وإلَيها، جاعِلاً كَينونَةً لِكُلِّ ما يُحَدِّدُهُ، بالتَساوي، وَمُرسِياً لِلمَشيئَةِ حَرَكَةُ وِلِلقَلبِ حَرَكَةُ مُتَلازِمَةً، لا في صَقيع، بَل في نارٍ مُتَقِّدةٍ أبَدًا. تِلكَ هيَ كَينونَةُ الإيمانِ المُدرِكِ ذاتَهُ وَالمُتفاعِلِ مَعَ الذاتِ الكُليَّةِ.

ضَمَّةُ إنعِتاقٍ

وَبَعدُ، كانَ على المَسيحيَّةِ أن تَسنِدَ كَينونَةَ لبنانَ على مِقياسِ الروحِ في شاسِعاتِ المَدارِكَ، فَبَرَعَت. وأطلَقَ فيلون البيبلوسيَّ فِكرَ التَوفيقِ بَينَ موسى وأفلاطونَ، بَينَ الفِكرِ المُتَرَوحِنِ والفِكرِ المُتَعَقلِنِ.

هذا التَوفيقُ سَيَعُمَّ روما، إمبراطوريَّةَ الجَيش الأقوى في العالَمِ وَيَدحَرُها ليُقيمَ عَلى رَمادِها إطلاَلةَ إنطاكيا، "مَدينَةَ اللهِ العُظمى"، التي خَلَقَت تُراثَ كَنائِسَ الشَرقِ وَظَفَرَ ثبَاتِها، مِن إغناطيوسَ الإنطاكيَّ الى يوحنَّا الدِمَشقيَّ وإسطفانَ الدويهيَّ، وَمِن "مَجموعَةِ القوانينَ البيعيَّةِ"، دُستورَ الطائِفَةِ المارونيَّةِ، الى "المَقالاتِ العَشرِ" المُرسَلَةِ ليوحنَّا بَطريَركَ المَلَكييِّنَ سَنَةَ 1089، وَمِن مَقالاتِ بولُسَ الراهِبَ أسقًفَ صَيدا، المُترَفَةِ بِرِفعَةِ الكَلِمَةِ وَنَقاءِ البَصيرَةِ، الى نَجاوى جورج خضرَ الغوَّارَةِ بالبَهاءِ.

هو لبنانُ ضَمُّةُ لَهَبِ المَحَبَّةِ للعالَمِ، وَفي خَلقِها غُلوُّ إنعِتاقِ الخَطَراتِ في المُجَرَّداتِ، والمَنهَجِ في الذُهنِيَّاتِ.

(مُهداة الى المُطران جورج خضر في مِئَويَّتِهِ)