لا تبدو العلاقة بين البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​ و"​التيار الوطني الحر​" في أحسن أحوالها هذه الأيام، إذ لا يبدو أنّ الأول يغرّد في "سرب" الثاني من مختلف الأزمات التي تشهدها البلاد، فيما الثاني لا يبدي "ارتياحًا" لمواقف الأول على مستوى العديد من الاستحقاقات، في وقتٍ تغيب اللقاءات بين الجانبين منذ فترة غير قصيرة، وفق ما يرى كثيرون.

قبل نحو أسبوع، بدأ "التباعد" يظهر في العلن، بعد موقف للبطريرك الماروني خلال عظة الأحد، دعا فيه إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدّة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر، وذلك لانتخاب "رئيس واعد ينتشل لبنان من القعر الذي أوصلته إليه الجماعة السّياسية، أكانت حاكمة أم متفرّجة".

وفيما قرأت شريحة واسعة من جمهور "التيار" في هذا الموقف "تصويبًا" على الرئيس الحالي ​ميشال عون​، كرّر البطريرك الراعي مواقفه نفسها تقريبًا هذا الأسبوع، خلال عظة الأحد أيضًا، حيث دعا إلى انتخاب رئيس "فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب"، يكون قادرًا على "الشروع في وضع البلاد على طريق الإنقاذ الحقيقي والتغيير الإيجابي".

وإذا كانت مواقف البطريرك الراعي "استفزّت" بالحدّ الأدنى جمهور "التيار"، الذي اختار جزء منه الردّ عليه "افتراضيًا"، عبر وسائل التواصل، فإنّها طرحت في الوقت نفسه الكثير من علامات الاستفهام، حول النظرة إلى استحقاق الرئاسة المقبل، خصوصًا أنّ البعض قرأ في "مواصفات" الراعي للرئيس المقبل "انقلابًا" على مبدأ "الرئيس القوي".

من هذه النقطة بالتحديد، ينطلق المحسوبون على "التيار الوطني الحر" والمقرّبون منه في "تفنيد" المواصفات التي أطلقها البطريرك الراعي، وكلّها "جذابة ومغرية"، إذ إنّ أحدًا لا يمكنه الاعتراض على رئيس "متمرّس سياسيًا وصاحب خبرة"، أو أن يكون "محترمًا وشجاعًا"، أو حتى "رجل دولة حياديًا في نزاهته، وملتزمًا في وطنيته"، أو أن "يكون قادرًا على ممارسة دور المرجعية الوطنية والدستورية والأخلاقية".

لكنّهم يسألون: "هل هذه الصفات كافية لتؤهّل صاحبها للقب فخامة الرئيس؟ هل يكفي أن يكون الشخص نظيف الكفّ وآدميًا، حتى يستحقّ المنصب الأول في الدولة؟ هل يكفي أن يكون محترمًا وشجاعًا حتى يستلم شؤون البلاد والعباد في مرحلة دقيقة واستثنائية كتلك التي تمرّ بها البلاد اليوم؟ هل يكفي أن يكون رجل دولة نزيهًا ووطنيًا، حتى يكون قادرًا فعلاً على جمع اللبنانيين، وفرض هيبة الرئاسة ومنع مصادرة صلاحياتها"؟.

بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ المشكلة في المواصفات التي يعطيها البطريرك الراعي لأيّ رئيس مقبل تكمن في كونها تغيّب عنصر "القوة" الذي يفترض أن يستند إليه الرئيس، الذي ينبغي أن يتكئ على حيثية تمثيلية وقاعدة شعبية واسعة، حتى يستطيع فعلاً أن يحكم، إلا إذا كان المطلوب أن تعود الرئاسة كما كانت قبل "عهد" الرئيس ميشال عون، وهو ما يجزم "العونيّون" أنه لن يكون ممكنًا، لأنّ زمن "الرؤساء الرماديّين" ولّى إلى غير رجعة.

ومع أنّ هناك من يستند إلى تجربة الرئيس ميشال عون ليبرّر "الانقلاب" على تجربة "الرئيس القوي"، باعتبار أنّه لم يستطع منع كلّ "المصائب" التي انهالت على البلد، وأنّ عهده كان الذي أوصل البلاد إلى "جهنّم"، باعتراف وشهادة الرئيس نفسه، فإنّ "العونيّين" يستندون في المقابل إلى تجربة الرئيس عون في الحكم، ليبرّروا عدم "جواز" العودة إلى الخلف، في ظلّ "المؤامرات" التي تحاك على البلاد من كل حدب وصوب.

يقول هؤلاء إن الرئيس عون نجح في فرض "هيبة" الرئاسة، رغم كلّ محاولات الاستضعاف والمؤامرات، وتمسّك بالصلاحيات "القليلة" التي لا تزال متاحة له بحكم دستور الطائف، والتي كان بعضها "مهمَّشًا ومنسيًا" خلال العهود السابقة، وهو نجح في ذلك، متكئًا على الحيثية التي يتمتع بها، وهذا الأمر لوحده شكّل إنجازًا يُسجَّل لعهده، لن يكون من الوارد "التفريط به" اليوم، وهو ما أكّد الرئيس عون أساسًا في أكثر من مناسبة.

لكن، في مقابل وجهة نظر "العونيّين"، ثمّة من يعتبر أنّ "العهد القوي" أثبت أنّ "الرئيس القوي" بالمعنى التقليديّ للكلمة، ربطًا بالحيثية التمثيلية، ليس هو بالضرورة "المناسب" لقيادة البلاد، بدليل أنّ عون اتُهِم في أكثر من مناسبة بـ"تغليب" مصلحة الفريق السياسي الذي يُحسَب عليه، على غيرها من المصالح، وأنّه مثلاً يرهن "توقيعه" على مراسيم ​تأليف الحكومة​، بحصول هذا الفريق على "مُراده"، بمعزل عن مواقف القوى الأخرى.

ولعلّ البطريرك الراعي استند إلى ذلك بالتحديد، في دعوته إلى رئيس "متجرّد"، وحرص على القول إنّ هذا الرئيس يجب أن يكون "فوق الاصطفافات والمحاور"، ولكن أيضًا بموازاة ذلك، "فوق الأحزاب"، وهو ما يُعتقَد أنّه ليس "تفصيلاً" في كلامه، لأنه أراد القول إنّ الرئيس يجب أن يكون "على مسافة واحدة" من القوى المتنازعة، لا أن يكون جزءًا من هذه القوى، وبالتالي جزءًا من الأزمة، ما قد يؤدي إلى تفاقمها أكثر وأكثر.

ويذهب العارفون بأدبيّات بكركي أكثر من ذلك للإشارة إلى أنّ كلام الراعي لا يفترض أن يكون "نقيضًا" لما يقوله "العونيّون"، فهو بشكل أو بآخر يتبنّى شعار "بيّ الكل" الذي اختاروه هم للرئيس عند بدء الولاية الرئاسية، وهذا بالتحديد هو "جوهر" الرئيس "القوي" برأيهم، لأنّ "القوة" لا يختصرها حضور حزبي، بقدر ما تتمثل بـ"هيبة" يختصرها احترام الجميع، والعلاقات المتوازنة في الداخل والخارج، وهنا بيت القصيد.

في النتيجة، يرى العارفون أنّ الاختلاف حول مقاربة "الرئيس القوي" ما بين البطريرك الراعي و"التيار الوطني الحر" قد يكون مجرّد تفصيل "شكليّ"، لأنّ الأساس بالنسبة إلى البطريرك يبقى التوصل إلى رئيس مقبول من جميع الأطراف، وقادر على أن يحكم بكل معنى الكلمة، في المهلة الدستورية، وعدم الاستسلام لشبح "الفراغ" الذي يبقى، بمعزل عن كلّ شيء، "أخطر" السيناريوهات المطروحة!.