كلُّ لقاءٍ مع الربِّ هو شِفاء! نحنُ نسيرُ وسطَ عالمٍ مُخَلَّعٍ مِن جَرّاء انحرافاتِه الكثيرة في مَيادينَ شتّى. ومَن يَسمحُ لهذه الانحرافات أن تتغلغَلَ في نفسِه، يجدُ نفسَه مُخَلّعًا مِن الداخلِ وَسَطَ مجتمعاتٍ تَكثرُ فيها الأنانِيةُ والوُصوليَّةُ والمصالِحُ الشخصيَّة. فَلن يجدَ مَن يشفيه، ويضمُّهُ إلى صدرِهِ ويُعيدُ إليه استقامَتَه، إلّا الرّبّ الفادي.

في سياق مسيرتِنا الخمسينيَّة التي تَمتَدُّ مِن أحدِ الفِصحِ المجيدِ الى أحدِ جميعِ القدّيسين، والتي يَتخلَّلها عيدُ الصُّعودِ الإلهيِّ وأحدُ العَنصرة، نَمُرُّ بمحطّاتٍ شِفائِيَّةٍ هامَّة. فَبعدَ أحدِ توما الرَّسول وأحدِ حاملاتِ الطيبِ، الأَحَدَينِ الأوَّلَينِ بعدَ الفِصح، تبدأُ الكنيسةُ بتهيئَتِنا لاقتبالِ معموديَّةِ الرُّوحِ القُدس، وذلكَ مِن خِلالِ الآحادِ الثلاثِ التي يوجَد فيها ذِكرًا للمياه، وهِي: أحدُ شِفاءِ مُخلّعِ بيتَ حِسدا، أَحدُ السَّامريَّةِ وَأحدُ الأعمى، الذي غَسلَ وجهَه في بِركَة سِلوام.

إنَّ وجودَ المياهِ في هَذهِ الفَترة، يُذكّرُنا بمعمودِيَّتِنا الأولى التي نُجَدِّدُها بدموعِ التَّوْبَة الصَّادِقَة النَّابِعَةِ مِن القَلب. فَكما أنَّ نزولَنا في المياهِ وصعودَنا مِنهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ على اسمِ الثَّالوثِ القدّوسِ، هو مَوتُنا عنِ الإِنسانِ القَديم وقيامَتُنا معَ المسيحِ خَليقَةً جَديدة، هَكذا تكونُ وِلادَتُنا الثانيةُ معَ الرّبِّ القائِم، في كلِّ مرَّة نخرجُ فيها مِن قَبرِ خطايانا التي تُخَلِّعُنا.

تُرى ما معنى أَن "تُخَلّعَنا الخطيئةُ"؟.

يَكمُنُ الجَّوابُ في الرُّجوعِ إلى الصَّفحةِ الأُولى مِن الكتابِ المقدَّس، وَتحديدًا إلى الإصحاحِ الأوَّلِ مِن سِفرِ التَكوين، وذلك عِندَما خَلقَ اللهُ الإنسانَ على صورتِهِ، ودَعانا لِنَكونَ على مِثالِه.

هذا ما مِعناهُ أنَّه خلقَنا أَصِحّاءَ دونَ الخَطيئَة، التي هِيَ غريبةٌ عَنّا أصلًا.

سَقطَ الإنسانُ بِملءِ إرادَته، وانصاعَ إلى إرادَةِ الشرّيرِ عدوِّ الإِنسان، الذي هَدَفُه الأوَّل والأَخير خَلعُنا مِن مكانَتِنا الأُولى، أيّ مِنَ السَماء، وَإحدارُنا إلى قَعرِ جَهَنَّم.

فَعَمَلِيَّةُ خَلعِ الإنسانِ مِن قَرابَتِهِ إلى اللهِ تُفقِدُهُ هَوِيَّتَهُ الأَساسيَّة، تُكَبِّلُهُ بمَعاصيه، وَتُعجِزُهُ عَنِ السَّيرِ بِحريَّةِ أبناءِ الله. لأنَّه يكونُ حينَئِذٍ قَد أضحى عَبدًا لِضُعفاتِهِ، مَخلوعًا وَمُخَلَّعًا.

مِن جِهة أولى، نحنُ مَخلوعونَ عَن كرسيِّ مُلوكِيَّتِنا السَّماويَّة، بَعدَ أن كنّا أبناءَ الملكِ كَما خَلَقنا الله. أَمّا مِن جِهَّةٍ ثانِيَة، فَنحنُ سُقَماء نَنتَظِرُ مَن يرمينا في بِركَةِ النِعمَة الإِلهيَّة. وَكيف لِهذا أَن يحدثَ إِن كانَ مَن يُحيطُ بِنا قَد أصابَه المَرضُ نفسُه؟.

وَسَطَ كلِّ هذِهِ الأمور، نُبصرُ نورَ الخلاصِ والقيامةِ يُشرقانِ عَلينا، فإن صَرخَ قلبُنا صَرخةً قياميَّةً صادِقَة، وطلبَ الشفاءَ مِن طبيبِ نفوسنا وأجسادِنا، لَوَجدنا أنفسَنا قائِمينَ مِن جَديد، أصِحّاءَ، نُهَروِلُ قُدُمًا نَحوَ المُخَلَّعين، حاملينَ إلَيهم بِفرحٍ بِشارَةَ الشِّفاءِ التي هيَ كلمةُ اللهِ المُحيِيَة.

إنجيلُ أحدِ المُخلَّعِ[1] يَخلَعُ مِن أمامِنا كلَّ عُذرٍ على عدَمِ الشِفاء. فَبَعدَ أن تَجَسَّدَ الرَّبُّ لم يَعُد باستطاعَتِنا أن نُماثِلَ مُخلّعَ بيتِ حِسدا الذي أَجابَ يسوع: "لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ لأشفى"، وذلكَ عندما سألَه الرّب: "أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ"؟ فالذي في وَسَطِنا اليوم ليسَ إنسانًا فَحسب، بل هو خالقُ الإنسانِ وجابلُه، والنافِخُ في أَنفِهِ نسمَةَ الحَياة.

بقاؤُنا مُخَلّعينَ مرتبطٌ فينا. فإمّا أن نَقبعَ في العَهدِ القديم، أو أن نَعبُرَ مع الناهِضِ مِن بينِ الأمواتِ إلى العَهدٍ الجديد. فعِندما قال المسيحُ للمُخَلّع: "قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ"، قَصدَ بقولِه، إنَّ ما كانَ يحملُك قبلًا، تَحملُه أنتَ الآن، وها قد أصبحتَ بكلمتي المُحيية أقوى منه. أنتَ لم تَعُد مَطروحًا بَل قائمًا. الخطيئةُ تُلقينا على فراشِ الألَمِ والمَوت، وَتطرحُنا في غَياهِبِ الظُلُمات، أمّا النِعمة فَترفَعُنا إِلى نورِ السَّماءِ بِفرحِ القيامَة!.

يقولُ القدّيس أثناسيوس الكبير: "حياتُنا هنا على الأرضِ هي بمثابَةِ إِعدادٍ للحَياةِ السَّماويّة، فنَتَعلَّمُ لُغَةَ السَّماءِ التي هِي المحبَّة، وَنتهيَّأُ للاتّحادِ بالرَّبِّ يسوعَ المسيح، والتَمتُّعِ به دون أيَّةِ حواجِز. وَنَستعدُّ للعيدِ الأبديّ الذي لا ينتهي، والفرحِ السَّماويِّ الذي لن يُنزَعَ منّا، وذلكَ بتعييدِنا هنا بطريقةٍ روحيَّةٍ سماويَّة".

بانحدارِ الرّبِّ إلينا، أزالَ كلَّ العوائِقِ التي تَمنعنا مِن الشِفاءِ القياميّ، وَفتحَ لنا بابَ السَّماءِ على مِصراعَيه، وأَعطانا النِّعمةَ أن نَتذوَّقَ طَعمَ الملكوتِ مِن الآن. فَما عَلينا إِلّا أن نلاقِيَه بِخَطواتِ توبتِنا. وخَيرُ مِثالٍ على ذلكَ الابنُ الشاطِر الذي ما أن قرَّر أن يَعودَ إلى مَنزلِ أَبيه، لاقاه والدُه قبلَ أن يصلَ إليه، وأعادَ له مكانَتَهُ التي خَلَعتها الخطيئة.

فَسِرُّ عَودَةِ الابنِ هوَ إدراكُه لتَخَلُّعِه، وفقدانُ مَكانتِهِ المُكرَّمة في منزلهِ الأَصليّ. ولكنَّه بالرُغمِ مِن سقوطِه وشعورِهِ بعدمِ استحقاقِهِ بأن يكونَ ابنًا لأبيه، أَطلقَ صَرخَتَهُ القِيامِيَّة، قائِلًا: "أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ"!.

صرختُه هذهِ كانت مُحِقَّة، فهي أعادَتهُ إلى الحَياةِ، وإِلى صورَتِهِ الأولى التي خُلِقَ عَليها: "أيقونَةٍ لامعَةٍ مُشرِقَةٍ ونورانِيَّة".

هَكذا نَحن، لا يُريدُنا الرَّبُّ أن نبقى مُخَلَّعينَ، بل أن نقومَ ونَنضَمَّ إلى قوافِلَ القِدّيسينَ الذينَ يَتنعّمونَ بالسُّرور الأبَدِيّ.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. يوحنا 1:5-15