لم أكن بنيّتي يومًا أن أجعل من هذه الطلّة الأسبوعيّة منبرًا للإضاءة على أمور محزنة، أرثي من خلالها أعزّاء، وأسخّر الأحرف والكلمات لذرف الدمع على من رحلوا عنّا.

في بلدٍ كلبنان، يمكنك أن تتصوّر وتتخايل كلّ الوسائل التي تؤدّي إلى سقوط أبرياء، كبارًا وصغارًا. وقد ودّعنا الأحد الفائت، إحدى ضحايا هذا الموت الغادر، الطفلة نايا جان حنّا، التي سقطت نتيجة الإجرام، والغباء، والجهل في هذا البلد.

نايا هذه الطفلة البريئة تصرخ اليوم من قبرها في وجه قاتليها وتقول: لأيّ ذنب أُقتل؟ ولأي سبب اختطفتموني من يدي أمّي وأبي؟ لماذا حرمتموني من اصدقائي وزملائي؟ أتُرى أدفع ثمن العلم والنجاح! أم انا ضحيّة ثقافة الموت التي اعتمدتموها في هذا البلد، ام نتيجة حتميّة البيئات الحاضنة للسلاح المتفلّت؟.

نعم يا نايا، يا أيّها الملاك، الذي ارتفع من الأرض إلى السماء، لا نستطيع أن نقدّم لك أعذارًا أو تبريرًا، لأنّ لغة الموت تفوق لغة الحياة في لبنان، والذين يمتهنون القتل، جسديًا ومعنويًا، باتوا كثر، لأنّ الفكر "الميلشياوي" يطغى على فكر الدولة والمؤسسات، بالرغم مما تقوم به الأجهزة الأمنيّة، وفي طليعتها مؤسسة الجيش، للحفاظ على أمن الوطن والمواطن.

تربطني بعائلة الطفلة نايا صداقة شخصيّة ورباط روحيّ كنسيّ، ولم أتردّد لحظة عن زيارتها في غرفة العناية الفائقة، عند وقوع الحادثة، بطلب من عمّتها، التي بدورها فقدت ابنها إيلي في ريعان الشباب، لأسباب صحّية.

الصدمة التي كانت فقط على وجه عائلتها في المستشفى، والحزن الذي بدا واضحًا على ملامحهم، ارتسم على وجوه الممرّضات والأطباء، وحتى مرضى العناية الفائقة وزوّارهم. طوال وجودي أمام نايا، مصليًا وماسحًا إياها بالزيت المقدّس، كنت أرى الكلمات والتساؤلات تخرج من وجه كارول، والدة نايا، وفيها تعبير واضح عن السخط والوجع والحزن، والعتب بدالةٍ على الله. في الوقت عينه تعزّيت بشكرهم الله لإبقائه نايا لثلاثة أسابيع بينهم، قبل أن تفارق الحياة، حسب قول والدها لي.

استطاعت نايا أن تقاوم كل ّهذه المدّة، علّها تنتصر على قاتليها وتعود إلى أهلها ومحبّيها، لكنّ الموت هزمها، هذا الحوت الذي لا يشبع من ابتلاع الأحبّة، فكانت نايا إحدى ضحاياه، بهذا الأسلوب الفظيع، الذي لا يعبّر إلا عن مجموعة "أوباش" حملوا السلاح بغباء وجهل وحقد، ليعبّروا عن فرحهم وابتهاجهم لنجاح أبنائهم في الامتحانات الرسميّة، والنتيجة سقوط أبرياء على أمثال نايا.

أيّة مزرعة نعيش فيها، اذا تزوّج الناس، أم رزق أحدهم بولد، أم نجح في امتحان، أو توفّى لهم أحد، لَعْلَعَ الرصاص والأبرياء يدفعون الثمن غاليّا. فعلًا بتنا في عصفوريّة السلاح، الذي هدفه المزايدات والعراضات، بسبب سياسة الكره والعدائيّة لبعضنا البعض.

أعزّائي جان وكارول، وعموم أفراد أسرة نايا، جئناكم في وداع نايا، فوجدناكم ممتلئين نعمة وصبرًا ورجاء. أتيح لي الوقت، في الدفن، أن أتحدث مع والد الطفلة، فعلى الرغم من تساؤلاته الكثيرة، كانت كلمات الشكر لله طاغية على كل الكلمات، قائلًا: "الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا" (أيوب 1: 21). إيمان عائلة نايا بالمسيح الناهض من بيت الأموات هو عزاؤهم الوحيد، ولذلك ردّدوا مرارًا وتكرارًا، مع جمهور المشيّعين عبارة: "المسيح قام، حقًا قام".

وقد ذكّرني والد الضحيّة بقول المسيح: "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ" (لوقا 18: 16)، وهذا يكفيني أنّها في أحضان الآب السماويّ، وأضاف أنّه مرتاح لأن إيلي (ابن شقيقته، والراقد منذ مدّة) سيعتني بنايا عند يسوع في السماء.

لا تستطيع الكلمات أن تبلسم الجراح، إنّما الصلوات والتضرّع لله، كفيلان بأن تبقى ذكرى نايا إلى الأبد.

رجائي أن يعزّي الله قلوب محبّيها، وأن يفتقدهم برحماته الغنيّة. وإن كان من درس بعد مقتل نايا، وضحايا كثر، فلا بد أن تتوقف ظاهرة إطلاق النار العشوائي في الأحزان والأفراح على السواء، وأن تُلقي الجّهات الأمنية القبض على مطلقي النار لينالوا جزاءهم.

كفانا موتًا! نريد حياةً وثقافة حياة! والسلام.