أخذني الواقع الأليم الذي يطال الإخوة في فلسطين، إلى حديث مطوّل مع ابنتي، حول تاريخ الأزمة والصراع الفلسطيني الصهيوني، وما أصابنا منه من أذى، منذ أن هجّر الصهاينة الفلسطينيين إلى لبنان ودول الجوار. استعرضت لها، باختصار، معظم تفاصيل الأزمات من معاهدة القاهرة إلى دستور الطائف وما تبعه وسبقه، الى الأزمات التي نعيشها اليوم، بموضوعيّة ودون تطرّف وتمييز.

لا شكّ أنّ هذا الصراع لا زال مستمرًا لتاريخه، وثقافة الموت مستمرة، وما زلنا ندفع الثمن غاليًا، ولكن هذه المرّة دون اصطفاف طائفي، حيث الرفض والتأييد للقضية الفلسطينيّة، تجاوز حدود الطوائف، وأصبح متعدّدًا، بما فيه الموقف من الصراع اللبناني الإسرائيلي واستراتيجية مواجهته، ولكل جهة "أجندة".

للأسف، لبنان في قلب الصراع، لبنان في الواجهة وفي المواجهة، وفي عين العاصفة. لكن ما يؤسفني في هذا الصراع، المواقف المتطرّفة ممّا يجري الأمس واليوم، في غزّة وفي القدس وفلسطين عمومًا. بعض الأصوات تقول وتنادي بالنصر للمقاومين، والبعض الآخر، لو لم يقلها علنًا، إنما يؤيّد إسرائيل في القضاء على المقاومين، وهذا لبّ المشكلة عندنا.

هذه المواقف الملتبسة ليست حكرًا على الشارع اللبناني، فالشارع العربي ليس ببريء "من دم هذا الصدّيق".

اسمحوا لي بالقول، في هذه المحنة التي يعيشها الإخوة في فلسطين، إنّ كرامة العرب اليوم، يصنعها الشباب الفلسطينيّ بدمه، وكلّ ما تبقّى شهادة لهذا الدم، أو لا قيمة له.

الحقد الصهيوني ليس مختصرًا على المقاومين، بل يتعدّاه الى كل من ليس يهوديًّا. بالأمس القريب منعوا المسيحيين من الوصول الى أماكن العبادة واستهزأوا بهم وبصقوا عليهم، وهم الذين تآمروا قبلًا على معلّمهم وتواطأوا عليه، واقتادوه الى الصلب. هناك حقق الانتصار الكبير، حيث داس الموت بموته، وهم لتاريخه لم ولن يؤمنوا بقيامته.

في ظلّ هذه الفلسفة والممارسة الصهيونيّة، واضح أن إسرائيل لا تريد شعبًا فلسطينيًّا وعربيًا عظيم التطلّعات، كامل الحرّيّة، كامل النمو. "تريده معنويًّا في قفص شبيه بالقفص المادّيّ"، المرموز إليه بالسلطة الفلسطينية الحالية.

يؤسفني أنّ القضية الفلسطينية لم تعد أساس كلّ بحث عربيّ وطموح عربيّ! القدس وما حولها هي جرحنا، ولكن أين الحلّ المشرّف والعادل؟ أين امتحان العرب في هذه المحنة؟ أين الخطوات العمليّة لا الاستعراضيّة للجامعة العربية؟ هل نكتفي بالإدانة، ونتفرّج على قتل الضحايا؟.

في وجداننا المشرقي هناك رفض في العمق الروحيّ لهذا الكيان، رفض لظلمهم، ولقمعهم، ولكبريائهم، ولفكرهم وعقائدهم، وعن مسعاهم للتطبيع والتداخل فيما بيننا. لكن تكابرهم وفلسفتهم كلّها تكمن في عدم عيشهم بالمساواة والكرامة بيننا وبينهم، ولذلك لا أمل من سلام عادل وتطبيع في ظلّ هذا الفكر القائم على السيطرة، "ونصوصهم القائمة على تسخيرنا لمجده واستغلاله لنا". يستعملون كلمة "التطبيع" وهي كلمة حقّ عندهم، يُراد بها باطل.

رسالتي إلى العرب، وإلى كل مَن لديه ذرّة ضمير، ببقاء الأمل في سلام عادل وشامل، والسعي له. العرب مدعوون لوضع حدّ للحرب والقتل والتدمير. إذا ظهر المواطن العربيّ القوي والمتضامن بحق، مع القضية والشعب الفلسطيني، لا تبقى فلسطين ضعيفة. القدس هي حجر الأساس لكل عربي مؤمن وصادق، لبناء مستقبل الأجيال، في هذا الشرق المعذّب.

حرامٌ ما يجري وأمر مستهجن. كفانا دماءً، إسعوا إلى السلام، وضعوا حدًا للحرب والظلم، انتفضوا لكرامة فلسطين وأهلها، من خلال فرض السلام المنطقي. أمّا شعوب الغرب فمدعوة إلى صحوة ضمير، وعدم لوم الفلسطينيين بالمطلق، لما يقومون به من ردّة فعل، على أفعال الإسرائيليين القمعيّة والظالمة. بادروا إلى الضغط على حكوماتكم للوصول إلى إحقاق الحقّ، للوصول إلى حل شامل وعادل.

رغم عدم قناعتي بمصلحة إسرائيل للسلام، وخصوصًا السلام العادل، كونها دولة آثمة وخاطئة، وقد نعتها، يومًا، المطران جورج خضر، بقوله: "دولة حُبل فيها بالإثم وولدت في الخطيئة". كلامٌ للمطران خضر، نعود إليه في كل مرّة تشتدّ الواقعة على الفلسطينيين. هذا رأي أسقف مسيحي مشرقي حرّ، عاش واختبر كلّ النكبات التي حلّت بفلسطين والعرب عمومًا. إلا أنّنا لن نستسلم، وسنبقى نردد دومًا مع داود النبي: "أصلح يارب بمسرتك صهيون". على هذا الرجاء نطلب من الله أن ينجّي فلسطين ولبنان وسوريا، والعالم أجمع من الدماء، ويحلّ السلام، وأن تكون هذه الجولة الأخيرة من القتل والاقتتال، والطريق المؤدّية إلى السلام العادل، والله على كل شيء قدير.