من القليل والمجحف الاكتفاء بالقول ان الدول الكبرى تتعامل بمكيالين حين يتعلق الامر بمصالحها، ولا تكترث لزهق ارواح بريئة حتى ولو كانت من مواطنيها. هذا ما ينطبق تماماً على الحالة مع اسرائيل والدول الغربية، من يسمع المرء الاصوات المنتقدة الصادرة من الولايات المتحدة الاميركية (ومن بينها الرئيس الاميركي) ومن بريطانيا (كبار المسؤولين وغير المسؤولين ومن بينهم حفيد ونستون تشرشل) ومن باقي الدول (كندا، اوستراليا، ايطاليا، فرنسا...)، يعتقد ان المسؤولين الاسرائيليين اصبحوا في وضع حرج وسيواجهون مشكلة كبيرة حين يتم اتخاذ قرار وقف المساعدت العسكرية والاسلحة الى الجيش الاسرائيلي.

ولكن، ما هي الا ساعات، حتى يتيقّن المرء ان كل ما يقال يذهب ادراج الرياح، ويقبع تحت ثقل المصالح السياسية الشخصية للاحزاب والاشخاص الذين يتولون السلطة، فيغمضون اعينهم عن حقيقة صارخة، وعن مجازر لا يمكن وصفها. آخر هذه الاحداث ما ارتكبته اسرائيل بحق قافلة المساعدات الانسانية التابعة للمطبخ المركزي العالمي، الذي نسّق وقام بكل الاتصالات اللازمة مع كل الجهات المعنية لضمان عدم تعرضه لاي مفاجآت غير سارة وهو يدخل الطعام والماء الى المحاصرين في غزة، فإذا بالاسرائيليين يغتالون سبعة عاملين من عداد هذه المنظمة من جنسيات دوليّة. ومن المؤكد انه لو استهدفت اي دولة مثل هذه القافلة وقتل من كان فيها، لكانت قامت القيامة وتم تحضير العقوبات وفرض الحصار الاقتصادي والمالي والعسكري الى حد العزل. وتصاعدت الاصوات في الدول المعنية لوقف تزويد الاسرائيليين بالاسلحة حتى الحصول على ضمانات باستعمالها وفق الشروط المناسبة واهمها عدم ارتكاب المجازر، غير ان آذان المسؤولين كانت صمّاء، وكانت النتيجة اغداق الاسلحة الاميركية على اسرائيل، واحالة الوزير البريطاني السابق السير ألان دنكان الى التحقيق من قبل حزب المحافظين الذي ينتمي اليه!.

ماذا يعني هذا الامر عملياً؟ في الواقع، لا تحتمل المسألة اي تأويل او تشكيك، اذ تبدو اسرائيل اكثر من مطمئنة الى ان تدفق الاسلحة اليها من كل حدب وصوب، لن تشوبه شائبة، مهما كان عدد القتلى من جنسيات مختلفة، ولو ضربت عرض الحائط بكل المواثيق والاتفاقات الانسانية الدولية، فالسلاح قادم لا محالة، وكل ما يقال حول تهديد بوقف الامدادات العسكرية هو مجرد كلام لن يقدّم ولن يؤخّر في الواقع الاليم الذي تعيشه المنطقة. هذه اللعبة لن تنطلي على المسؤولين الاسرائيليين، لانهم يعلمون ان التهديد بوقف السلاح هو فقط للتهويل ولاقناع رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو ووزراء حربه بوجهة النظر الغربية الداعية الى وقف الحرب ومنع توسّعها لان عواقبها ستنعكس على الدول كافة، وليس حرصاً على الفلسطينيين.

ولكن، ما الذي يطمئن القادة الاسرائيليين في تل ابيب؟ الجواب بسيط، وهو ان وقف الاسلحة سيعني اخلالاً في ميزان القوّة في المنطقة الذي فرضته واشنطن والدول الغربية منذ عقود من الزمن، وهذا الامر سيؤدي الى تفكك اسرائيل، فشلّ سلاج الجو وحده كفيل بقلب الامور رأساً على عقب، اذ لن يكون باستطاعة الجيش الاسرائيلي تحقيق اي انجاز على الارض، وسيكون انجازه الاكبر الحفاظ على مواقعه. فمن الذي سيحمل هذه المسؤولية امام اللوبي الاسرائيلي المتحكّم بقوانين اللعبة في الدول الرئيسية؟ لن يجرؤ احد على القيام بهذه الخطوة، وستكون تعزيتهم للفلسطينيين والضحايا البريئة التي تسقط في غزة، انهم من موقعهم ككبار قادة العالم، يعلون الصوت دفاعاً عن ارواحهم، ويتضامنون مع اهالي الضحايا الذين سيلحقون بهم عاجلاً ام آجلاً.

نعم، لقد باع قادة العالم ضمائرهم وحتى مصالح مواطنيهم، في سبيل الحفاظ على مصالحهم الخاصة، وهم في هذا المجال، يجلسون في الخندق نفسه مع نتنياهو انما على طاولة اخرى، وهناك من بدأ بالقول: على الانسانية السلام...