قَلَّ أن تَجِدَ وَطَناً يُماتُ لِأجلِ تُربَتِهِ. بَل قَلَّ أن تَجِدَ وَطَناً، مِن ذُرى قِمَمِهِ المُعانِقَةِ السَماءَ الى إنبِساطِ شُطآنِهِ المُعانِقَةِ الأرضَ، حَبَّاتُ تُرابِهِ رُفاتُ بُطولاتٍ مُنصَهِرَةٍ بالدَمِّ، بالمُثولِ أمامَ حَضرَةِ الحَياةِ في أدَقِّ لَحَظاتِ مواجَهَتِها لِحَقيقَةِ البُطولَةِ.
لبنانُ والإستِشهادُ في سَبيلِهِ، وَمِن أجلِهِ، إنتِظامٌ مَرتَبِيٌّ، بالصَبرِ والأناةِ، بُلوغاً الى فَضيلَةِ الحَياةِ الأسمى. لا مَوتاً لِلمَوتِ. لا مَوتاً مُرتَكَباً بالذُنوبِ الكَبائِرَ، وَلا غارِقاً في التَسوياتِ، وَلا مُلَطَّخاً بِالأقذارِ. قُلتُ: بُلوغاً. والقَصدُ: مَنبَعُهُ، عَبرَ أجيالٍ وأجيالٍ، مَسؤولِيَّةُ المُطلَقِ المُختَبِرِ نَفسَهُ في تَقريرِ مَصيرِهِ في وجودِيَّاتِ الكَونِ والتاريخِ. في تَراكُماتِ الزَمَنِ والجُغرافيا... في كِيانِيَّةِ الفِعلِ الحَيِّ. الفِعلِ الحُرِّ. الفِعلِ الرافِضِ الإستِعبادَ، والإستِتباعَ، والإخضاعَ لِلامَنطِقِ مَراتِبَ غَلَبَةِ الأقوى، وإدِّعاءاتِ تَمَلُّكِهِ حُرُماتِ الوجودِ. لِتَحقيرِ كُلِّ وجودٍ.
أن يُكتَبَ مَصيرُ لبنانَ لا بالجَمادِ بَل بِنَبضِ الدَمِّ مِن حُدودِ المَقهورِيَّاتِ الى مَراتِبَ الوجودِ، وَمِنهُما مَعاً الى الإنغِماسِ الكيانِيِّ، في ذَلِكَ ولوجُ لبنانَ العُمقَ بالفِعلِ. بَل تَفَوُّقَهُ في كَونِهِ لَيسَ مَنسوخاً عَن، وَلا مُرتَبِطاً بِ، إنَّما هو دَهرِيَّةٌ كوسمولوجِيَّةٌ مَوثوقَةٌ كَونَ مَضامينِها مِن بَذلِ نَفسٍ بَلَغَت حَدَّ التَضحِيَةِ بِذاتِها لِلدفاعِ عَن ماهِيَّتِها غَيرَ المُمتَزِجَةِ بِأُخرى، وَغَيرَ المُستَخرَجَةِ أصلاً مِن أُخرى، وَغَيرَ المُحَلَّلَةِ لِأُخرى.
ها بَينَ أرضِهِ والسَماءِ، صَخرَةٌ مُعَلَّقَةٌ. عَلَيها يَرتَفِعُ دَيرُ سَيِّدَةِ حَوقا وَمَحبَسَتُهُ، مُستَشهِداً شاهِداً لِحَقيقَةِ تُرابِ هَذا الوَطَنِ المُتَفَرِّدِ. كانَ ذَلِكَ في القَرنِ الخامِسَ عَشَرَ لِلميلادِ. وَكانَ البَطريَركُ الشَهيدُ دانيالُ الحَدشيتِيُّ يَذودُ بِأعلى قِمَمِ لبنانَ عَن سَيِّدَةِ حِصنِ إهدِنَ. وَقَعَ في الأسرِ. وَسَقَطَ الحِصنُ. إرتَوَتِ الأرضُ دِماءً أولى. وَإنسَحَبَ المُقاوِمونَ الى كُتلَةِ مارِ جِرجِسَ وَدافَعوا حَتَّى الرَمَقِ الأخيرِ. إرتَوَتِ الأرضُ دِماءً ثانِيَةً. هَرَعَت إمرأةٌ إهدِنِيَّةٌ فَجَمَعَتِ الجَثامينَ وَحَمَلَتها الى كَنيسَتَي مارِ جِرجِسَ ومارِ ماما، وَأسرَعَت الى كفَرصغابَ قارِعَةً الجَرَسَ إنذاراً بالخَطَرِ الداهِمِ. إرتَقى الأهالي والمُقاوِمينَ الباقينَ الى ذُرى مُعانَقَةِ الأرضِ لِلسَماءِ: مَغارَةُ عاصي حَوقا. إعتَصَموا بِحَقِّ الحَياةِ، مَلاذِ الشَهادَةِ. وَفَشِلَ المَماليكُ بإقتِحامِ الذُرى... لَكِنَّ الشَيطانَ دَخَلَ الى ذاتِ إبنِ الصَبحا. وَكانَت خِيانَتُهُ لِأهلِهِ. دَلَّ المَملوكيِّينَ على إبادَتِهِمِ، في قَلبِ الجَبَلِ: جَرَّ مياهِ نَبعِ مارِ سِمعانَ بشَرّي، وَبِها إغراقُ مَغارَةِ عُصاةِ الإخضاعِ. إستَشهَدوا. إرتَوتَ الأرضُ دِماءً ثالِثَةً.
ثالوثِيَّةُ دِماءٍ زَكِيَّةٍ، طَهَّرَتِ عِناقَ السَماءِ لِلأرضِ. لَم يَجِد إبنُ الصَبحا سِواها لِغَسلِ خيانَتِهِ. فَبَكى بُكاءً مُرَّاً... وَبَنى قُبالَةَ مَغارَةِ شُهَداءِ الإستِشهادِ-الشَهادَةِ الدَيرَ شَهادَةَ-إستِشهادٍ لِغُفرانٍ يُحَرِّرُهُ مِنَ الَلعنَةِ.
مُثابَرَةُ الوثوقِ
ألُبنانُ المَكتوبُ بالدَمِّ نُهوضُ العُمقِ الى التَوَجُّدِ بِالوجودِ... حينَ الوجودُ يُغالِبُ القُوَّةَ والمَعصِيَةُ تَستَهدِفُ الحَقَّ؟
لبنانُ والإستِشهادُ سِعَةُ الفَضيلَةِ لِإحتِرامِ كُلِّ الوجودِ. لِأجلِها تِلكَ الفَضيلَةُ لا يَبرَحُ، جيلاً بَعدَ جيلٍ، مُنكَبَّاً على شَغَفِ الإنتِظامِ في الحَياةِ اللاحُدودَ لَها وَلا قياسَ لِأبعادِها وَلا أُفول لِدَقائِقَ مَراتِبِها، لِتَرصيعِ كُلِّ لَيلٍ داهِمٍ وَتَنصيعِ كُلِّ نَهارٍ مُغرَورِقٍ بالفَجيعَةِ.
في عِنادِهِ مُثابَرَةٌ، بِها يَتَصَدَّى مُستَقرِئاً سِرَّ الوثوقِ. سَيِّداً، قَوِيَّاً، عاتِياً... مُتَّضِعاً.
في مُثابَرَةِ الوثوقِ هَذِهِ، لبنانُ الخاضِعُ لِلتَجرِبَةِ، سَيِّدُ العَقلِ إذ لَيسَ ثَمَّةَ مَعرِفَةً كامِلَةً بِهِ إلَّا بِالدُخولِ الصَميمِيِّ لِتَكامُلِ تَضحِياتِهِ، الخَلَّاقِ بِوافِرِ الفِعلِ المُتَناوِبِ في الأحقابِ.
ألبنانُ وثوقُ المُثابَرَةِ في وعورَةِ المَسارِ؟ قُلّ: كَثافَةُ الإنسانِيَّةِ الأبِيَّةِ!.