لو عصرنا حصيلة جهود المتفاوضين في جنيف 2 بين وفد النظام السوري ووفد المعارضة لوجدنا أنفسنا، وفقاً لعلوم التفاوض، أنّ ما حصل هناك لا يمكن إدراجه لا في خانة التفاوض ولا في خانة المساومة. فالتفاوض عمل إستراتيجي مضنٍ وطويل ومعقّد يبحث عن زرع بذور الثقة المفقودة بين المتفاوضين ليشعر كلّ طرف من الأطراف بأنّه فاز في مسيرة المفاوضات ونقاطها، بينما ترتكز المساومات أكثر على إظهار كلّ فريق لنفسه وللعالم فوزه إنطلاقاً من متانته وتأسيساً على نقاط الضعف لدى الفريق الآخر الذي يبدو خاسراً ولكنّه قد يكابر على إظهار النجاح. هكذا إختلطت هويّة اللقاء بين السوريين لتحمل لمحاً نادرة في التفاوض والكثير من المساومات الإعلامية التي لا علاقة لها بالجوهر والعد عن ملامح التسويات والغياب الكامل لمنطق التحكيم البعيد عن مناخ الصلح في هذا العالم المثخن؟ هذا يعني بأنّ ما حصل يبدو مشبعاً بالإستحالات خصوصاً وأنّ المتفاوضين لم ينكبّوا بعد على الموقف الصراعي المأزمي بقدر إنكبابهم على إستعمال الأساليب التي تظهر الخصم في مواقع السقطة والدونية والتشويه وهو ما طفا نافراً في الشكل الذي يخفي مضموناً مطويّاً لا في الملفات والحجج والأسانيد المتقابلة المجهولة بل في إنتظار الكلمة الدولية. لماذ؟

لأسبابٍ ثلاثة أدعمها بخبرة أكاديمية في أصول التفاوض وفضّ النزاعات منذ معركة تلّة قادش في القصير التي كتبنا عنها في هذه الصفحة والتي فضّت الصراع الإعيائي بين المصريين والحثيين منذ العام 1285 قبل الميلاد والتي عبرها وضعت أوّل وثيقة صلح تاريخية ترفع حتّى اليوم في الأمم المتحدة وصولاً الى جنيف 2 وما بينهما من مفاوضات كامب دايفيد والمؤتمرات حول فلسطين التي تجاوزت في أعدادها عدد الفلسطينيين منذ ال1948، مروراً بمفاوضات إتّفاق الطائف في لبنان الذي ما زال موضع جذب وتفاوض وتنافر وإنقسام بالرغم من كونه أصبح دستوراً نافذاً منذ ربع قرن.

1- أمّا السبب الأوّل، وكما العادة، يعود الى طبيعة قراءة النصوص الأوّلية الأممية المبهمة والملغومة والتي غالباً ما يغرقها المتفاوضون في المزيد من الإبهام والتناقضات في الفهم والتفسير عند التأهب لها. ويزيد في إبهامها أنّ الوقائع على الأرض غالباً ما تتجاوز النصوص أو تعدّلها أو تجعلها غير مقبولة من أطراف النزاع التي يتحوّل أعضاؤها ومعهم الدبلوماسية العالمية غير الناضجة بعد الى أشبه بمجامع لغوية في تفسير النقاط المبهمة. هذا ما نصادفه بسهولة في قرارات مجلس الأمن 425 و426، والخلافات الدولية والإقليمية الكثيرة حول كلمة أراضٍ عربية أو الأراضي العربية في الصراع العربي- الإسرائيلي، الى درجة دفعتني لأن أسمّي مجلس الأمن الدولي في هذه الصفحة أيضاً ب" مطبعة الأمن الدولي" كونه أصدر أكثر من 86 قرارٍ فقط في الحروب اللبنانية. هل ننسى الألف واللام في ترجمة كلمة أراضٍ غيّرت شيئاً في مبادرات السلام بين العرب والعدو الإسرائيلي؟ وقد يكون من الطبيعي أن نسحب هذا الأمر على باكورة الجولة الأولى من الجلسات السورية التي بقيت وستبقى برعماً مطموراً في الجليد ولو أنّ الأخضر الإبراهيمي رمى أملاً ملتهبا من شبّاك جنيف في الأجواء مبشّراً بذوبان الجليد البطيء.

2- يعود السبب الثاني الى التداخلات الكثيفة المحلية والعربية والإقليمية والدولية فوق العتبة السورية ويرقد في ذهن المراقب الكلام الكثير المدموغ حول صفة العالمية في سوريا. وباتت الصورة أمام العين العالمية وبعض أرادتها مشدودة بين موضوع الإرهاب وموضوع مستقبل النظام. وشغلت سوريا نقطة الحبر التي منها ستنطلق المفاوضات لتبقى نتائجها معلّقة كبندٍ أوّل سينتظر طويلاً كتابة ملامح النظام العالمي الجديد. هكذا تبقى تلك النقطة على الأرجح عالقة أمام نص جنيف 1 كنقطة تجاذب دائرية وإنقسام متعدد غير ثنائي في إنتظار الوضع الميداني العسكري على مستوى سوريا. ماذا ننتظر من جنيف عندما تتوسّع شمسيّة الأطراف المتفاوضة المعلنة منها والسرية الى أصقاع الأرض المعنيّة بشؤون الأوسط إنطلاقاً من سوريا؟ ننتظر الملف موضوع المفاوضة الذي سيستغرق وقتاً وجهوداً طويلة تتجاوز بكثير ما حصل ويحصل وسيحصل في سوريا. وما شهدناه لا يتجاوز حسن التقدير أوعدمه لموقف المتفاوضين وكيفية تشكيل وفديهم وقدراتهم ودراسة شخصياتهم وتحليلها والتعليق عليها كلّ من منظاره الذي يجانب الموضوعية في التفاوض. ومن المبكر جدّاً البحث في فنون وآداب وعلوم التفاوض والإقناع حيث العرض والتبادل والتقريب والتكييف والتفاعل والتنازل السرّي والعلني والكرّ والفرّ والإقتناع والإتفاق والهدنات والإقرار بالفوز والخسارة لبشر منحوا خطاب التفويض الذي يحدد صلاحيالت المتفاوضين وكلّ هذا لا قيمة له حيال العغنوان الدولي القائل بالحلول السلمية.

3- في السبب الثالث تظهر مجدّداً وسائل الإعلام المرابطة عند باب المتفاوضين لتفلش التشتيت والتناقض والتزاحم على تحقيق أكبر كمّ من المقابلات والتصريحات التي لا تتجاوز حبّة الخردل في جوهر الأمر مع أنّ الإبراهيمي قد إعتاد على تفصيل بذلة على قياس زر من أكمامها، بإنتظار كلمة السرّ الدولية التي لم تصغ بعد. طبعاً لا لوم على وسائل الإعلام ودورها في إظهار الإنقسامات التي طالتها بصيغة الجمع قبل جنيف2 وبعده. لكن المشهد يعيدني الى مدينة الطائف حيث وضعت الحروب اللبنانية أوزارها قبل مباشرة المؤتمر. فعندما استقبلت في رحابها بقايا أعضاء البرلمان اللبناني الذين ما كانوا أصحاب القرار الفعلي في إنهاء الحرب لأنّ الأرض اللبنانية كانت تحت سيطرة الفئات والطوائف والأحزاب المتقاتلة. وللشهادة، روى لي شقيق زوجتي يوسف جبران الذي رافق والده النائب فريد جبران الى قصر المؤتمرات في الطائف أنّ الإعلاميين أبقوا على بعد 42 كلم عن مدينة الطائف التي استضافت النوّاب ليومين لكنّهم مكثوا فيها شهراً كاملاً في حالٍ من العزلة والإنتظار المبهم إن لم نقل أكثر. كانت جهودهم منصبّة على بند واحد هو وقف القتال وبأيّ ثمن. لم يكن لديهم إمكانية للإتّصال بلبنان ولم يكن بحوزتهم إلاّ جهاز راديو صغير إشتراه يوسف جبران حيث كانوا يتسقّطون عبره أخبار القتال والتفجير في لبنان وتحديداً أخبارالجنرال ميشال عون ومواقفه من المؤتمر. وقد أوصى النائب ميشال معوّض آنذاك على راديو ثانٍ لمعرفة ما يستجدّ في الوطن.

كيف قضوا الشهر؟

في نقاشٍ مرير نضعه في خانة الكفت Défoulement مقابل مرحلة الكبت Réfoulement أفرغ فيها المتفاوضون ما في جعبهم من مواقف لا قفّازاتٍ دبلوماسية أو برلمانية ترعاها مع أنّ اللجنة الرباعية والأخضر الإبراهيمي ورفيق الحريري كانوا يرعونها في إنتظار نضوج كلمة السرّ أو القرار الدولي والإقليمي الضاغط في التوقيع على نصّ أضاف إليه النوّاب بعض التعديلات الطفيفة، وحمل الرئيس حسين الحسيني يومذاك المناقشات الحامية وأقفل عليها بإحكام في خزانته الخاصة لأنّ ما فيها من تراث ووقائع طائفية لا يليق أن يعرفه الأبناء والأحفاد.

هذا السبب في الحضور المتدفّق للإعلاميين في جنيف 2 جعلنا نعرض عن تفاصيل ما دار فيه، والإقتناع بأنّ مصطلح الحل السلمي في سوريا الشائع ما زالت على مستوى الShow الإعلامي للمتفاوضين بإنتظار البرعم المطمور في قطب الشمال.