لم يعد الحديث عن "مراوحة حكومية" مُجديًا، ولم يعد "الرهان" على موعد ولادةٍ طبيعيةٍ أو قيصريةٍ من هنا أو هناك مقبولاً، فالأمور تسوء على ما يبدو أكثر فأكثر مع كلّ يومٍ جديدٍ، لتبدو البلاد متّجهة نحو مجهولٍ يقول البعض أنه قد يكون أفضل من "المعلوم"..

بالأمس، خفّت وتيرة الحديث عن الحكومة "العالقة" بين سندان المبادئ التي اتُّفِق عليها والمطالب المتقابلة للأفرقاء السياسيين، وحرص اللاعبون السياسيون على عدم تسريب أيّ موعدٍ جديدٍ قد يخيب تمامًا كما حصل مع أسلافه، في ظلّ شبه إقرار من مختلف الأفرقاء بأنّ الأمور كلّها مرهونة بالخارج، أو بـ"لعبة الأمم"، التي تملك وحدها "كلمة السر" التي يمكنها حلحلة كلّ "العقد" بـ"كبسة زر".

وبالانتظار، وفيما كانت تحظى "وثيقة بكركي" بـ"إجماع نظري"، ولو فهمها كلّ فريق على ذوقه على جري العادة اللبنانية، كان كلامٌ لافتٌ للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي اعتبر البعض أنه "نسف" عمليًا كلّ الجهود لتشكيل ما سُمّيت بـ"حكومة أمر واقع".

قال كلمته ومشى..

على قاعدة "قال كلمته ومشى"، أطلق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إذًا مواقف وُصِفت باللافتة جدًا قبيل مغادرته مطار بيروت الدولي متوجها الى الفاتيكان في اطار زيارة تستمر اسبوعين يلتقي خلالها البابا فرنسيس ويشارك في اجتماعات اللجان البابوية في الفاتيكان بصفته عضوا فيها.

وفي التفاصيل أنّ البطريرك الراعي دعا إلى قيام حكومة "لا تشكل أزمة أو تحدياً لأحد في لبنان"، مؤكداً أنه "ليس من المناسب، على مشارف انتخاب رئيس جديد للجمهورية، خلق أزمة جديدة في البلد"، وقال: "برأيي ليس الوقت مناسبا لخلق ازمة جديدة وليس من كرامة لا رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ولا من كرامة رئيس الحكومة المكلف تمام سلام ان تشكل حكومة لا تنال الثقة في مجلس النواب". ورداً على سؤال حول المداورة، أجاب: "المهم أن تشكل حكومة تهيئ للاستحقاق الاساسي، اي رئيس للجمهورية، ولا اريد أن ندخل في كل هذه المناورات الداخلية، فقد شبعنا من المناورات".

في غضون ذلك، لم يُسجَّل أيّ موقف أو اتصال من شأنه دفع الأمور إلى الأمام، ولفت المشاورات التي أجراها رئيس كتلة "المستقبل" فؤاد السنيورة مع رئيس تيار "المستقبل" النائب سعد الحريري في الرياض. وفيما تتّجه الأنظار لكلمتي كلّ من الحريري يوم الجمعة والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله يوم الأحد المقبل، برز موقف "ساخر" لرئيس جبهة "النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط قال فيه: "لقد تقمصت قبل ان أموت، وانا متقمص في الصين حالياً الى حين الفرج".

لبنان في صلب القمم الدولية!

في غضون ذلك، حضر لبنان كـ"ضيفٍ دسم" على طاولة المباحثات بين الرئيسين الاميركي باراك أوباما والفرنسي فرنسوا هولاند، حيث شدّد الأخير على أهمية الهدوء في لبنان وعدم انزلاقه الى حرب أهلية، مذكّرًا بأن لفرنسا علاقات تاريخية مع لبنان، ومعربًا عن تفهمه "للصعوبات التي يعيشها لبنان والأردن بسبب أزمة اللاجئين وضرورة تقديم الدعم اللازم لهذين البلدين... وللبنان من أجل وحدته وسلامته"، فيما أكد أوباما مواصلة العمل مع فرنسا لدعم "الشركاء" في المنطقة، ومن ضمنهم لبنان.

وبعيدًا عن ذلك، شكّلت وثيقة بكركي مادة أساسية للنقاشات الداخلية، فعقد رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع مؤتمرًا صحافيًا خصّصه لتفنيدها، فرأى أنّ هناك مشروعين مطروحين، هما مشروع وثيقة بكركي ومشروع دويلة حزب الله، وعلى كل شخص ان يختار، مشدّدًا على أن "لا احد يستطيع ان يقول انه مع مذكرة بكركي بل عليه ان يحترم النقاط الاساسية التي ترد فيها وهي مشروع الدولة الفاعلة ولا شيء آخر".

وسريعًا، أتى الرد من تكتل "التغيير والاصلاح" الذي تحدّث باسمه النائب ابراهيم كنعان عوضًا عن رئيس التكتل العماد ميشال عون، حيث غيّب الملف الحكومي من موقفه الأسبوعي، مركّزًا على وثيقة بكركي التي أكد كنعان أنّ التكتل لم يؤيّدها إلا بعد التمعن فيها "لأنه لا يمكننا ان نؤيد مذكرة دون ان نتأكد أن بنودها الرئيسية تنسجم مع تطلعاتنا ومبادئنا"، مشددا على ان "النقاط الرئيسية في المذكرة وطنية وليست مسيحية".

كلمة أخيرة..

أجمل ما في لبنان مواقف مسؤوليه من أيّ وثيقةٍ تصدر، وطنية كانت أم روحية أم سياسية..

كلّ الافرقاء، دون استثناء يسارعون للترحيب والإشادة والتنويه، بل يذهبون دائمًا لحدّ القول أنّهم من يطبّقون هذه الوثائق وأنّ الفريق الآخر هو من ينقضها..

هكذا يحصل اليوم مع وثيقة بكركي، وهكذا حصل سابقاً مع إعلان بعبدا، وغيره الكثير من النماذج، فإلى متى ستبقى سياسة "الضحك على الذقون" هي السائدة؟ ومتى يحين وقت تحويل "المواقف النظرية" إلى "أمور عملية"؟