حين خرج رئيس قسم الشؤون العامّة في البطريركيّة الروسيّة الأرثوذكسيّة، المتقدّم في الكهنة ​فسيفولد تشابلن​ بكلامه الواضح، القائل فيه "بأنّ القتال ضدّ الإرهاب حرب مقدّسة"، استعمل بعضهم عبارات مواجهة له في صحف عديدة، منها أن ليس في المسيحية حروب مقدّسة، وتاليًا إله المسيحيين ليس إله العسكر وإله العسكر قد مات. واستند هؤلاء في الردّ على تاريخ سحيق حين تعرّض الشرق لحملة صليبية، وصّفت بأنها حرب مقدّسة، وما كانت في حقيقتها موجّهة ضدّ المسلمين بقدر ما كانت موجّهة ضد المسيحيين المشارقة، فقتلت منهم وشرّدت وتناقلت الأجيال أخبار تلك الحملة المحفورة في الذاكرة المسيحيّة المشرقيّة كما ​الإسلام​يّة. غير ان استناد هؤلاء على ذلك التاريخ في المقارنة بين واقعين شابه التجويف في التمييز بين محتوى الحملة الصليبيّة والمحتوى المكنون بقوّة في قلب ما قصده الروس بالحرب على الإرهاب.

وإذا ساغت المقارنة كما المقاربة بين تاريخ وحاضر، فإنّ الصليبيّة المشؤومة ما هي سوى اعتداء وجوديّ على الكيانين المسيحيّ والمسلم على السواء، وقد رسمت الخريطة الأولى لنزف مسيحيّ من ​القدس​، وسوّغت أن تبدو القدس محتوى لغرباء ليسوا من تراثها. لكنّ مفهوم الحرب المقدّسة الذي سطع بحرفيّته عند تشابلن، لا ينتمي في ظرفه وتوقيته إلى خصوصيّة أرثوذكسيّة ضيّقة تشاء تبليغ المسلمين، كلّ المسلمين، بأنّنا في حرب. بل على العكس فهي تنتمي إلى مفهوم مسيحيّ-إسلاميّ مشترك، في خوض تلك الحرب على إرهاب لبس لبوسًا إسلاميًّا، فيما هو بجوهره حرّف الإسلام عن حقيقته وجوهره، بل شيطنه وأخذه إلى المواقع العبثيّة المظلمة حيث هو برّاء منها. وللتذكير، فإنّ "​الأزهر​" حين تمّ حرق معاذ الكساسبة الطيار الأردنيّ بتلك الصورة الوحشيّة، أصدر آنذاك بيانًا ناريًّا نعت "الدواعش" بالوحوش البربريّة، ودعا العالم العربيّ والإسلامي إلى مقاومتهم ومقاتلتهم لأنّ قتلهم واجب اخلاقيّ ومقدّس. الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله دخل الحرب في سوريا للقناعة عينها بمحتواها الأخلاقيّ والقيميّ، وقد أمسى في أدبياته نوعًا من الجهاد بوجه هؤلاء. من هنا نخلص بواقعيّة شديدة إلى أنّ كلام تشابلن متماه بالكليّة مع مفهوم الأزهر ومفهوم السيد نصرالله، وكذلك موقف مفتي الجمهوريّة ال​لبنان​يّة الشيخ ​عبد اللطيف دريان​ في موقف أخلاقيّ ظهر متقدّمًا. وقتال "داعش" وكلّ تنظيم إرهابيّ بات واجبًا مقدّسًا عند المسلمين والمسيحيين على السواء. وفي هذا المعنى لا بدّ أيضًا من تذكير المنتقدين بأنّ بعضهم دعوا المسلمين وبنوع خاصّ أئمّتهم ومراجعهم الكبار من مصر إلى السعودية ولبنان لنحت فقه يتيح ويبيح مقاتلة الإرهابيين، فضلاً عن اضافة مناهج فقهيّة جديدة تواجه هؤلاء في إطارهم الإسلامويّ، ومناهجهم الشريعيّة. فما معنى هذا التراجع والخوف إذاً، وممن الخوف؟

في الليتورجيا الأرثوذكسيّة ثمّة قديسيون كانوا قياديي جيش كالقديس ثيودوروس، ثمّة من كان جنديًّا كالقديس جاورجيوس أو ديمتريوس... تلك الشواهد لا يقصد منها بأنها السبيل لتبرير القتل، ما من قتل في الدنيا يبرّر، لا قضائيًّا ولا أخلاقيًّا ولا إنسانيًّا، فالمسيح في الكتاب المقدّس مسيح المحبّة. إلاّ أنّ ما يحصل في الزمان الحاضر من قطع رؤوس يمارس بحق أناس آمنين عائشين في قراهم وبيوتهم، يحفزّنا من أجل الحقّ والخير للانخراط في مفهوم الحرب على الإرهاب، ليس حتمًا بالمفهوم الأميركيّ الضبابيّ الاستثماريّ المنتمي إلى الحقبة الكيسينجريّة، بل بالمفهوم الروسيّ المتوازن مع ذاته وتاريخه، والذي يشاء القضاء عليه من جذوره بلا ثغرات مستقبلية تذكر. بهذا المعنى يجدر بنا القول بأنّ الحرب على الإرهاب أخلاقيّة وضروريّة، ليست حربًا مسيحيّة ولا صليبيّة جديدة، بل هي في حقيقتها حرب مسيحيّة إسلامية بهويتها الروسيّة وبخاصّة بعد صدور مواقف من مراجع إسلامية في موسكو تبارك ذلك السعي الكبير.

مصادر راقبت سياق تلك التصاريح الصادرة، وبعد تشخيصها اليسير لها، وجدتها مرتبطة باصطفاف سياسيّ لبنانيّ واضح المعالم والآفاق، يدرك في قرارة نفسه أنّه يقاتل بأوراق صفراء على المستوى الداخليّ وليس بأوراق زاهية تستبطن في انكبابها مواطن القوة. وتعتبر تلك المصادر، بأنّ وزيرًا سابقًا عميق الثقافة ملمًّا بالإسلاميات، وانطلاقًا من علاقته العميقة برئيس حكومة سابق، حرّض إحدى الصحف اللبنانيّة لتستكشف آراء بعض الكهنة في الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس، بالتحريض على كلام تشابلن ومنه على البطريركيّة الأرثوذكسيّة الروسيّة، وخلق مناخ اعتراض ورفض على قاعدة لاهوتيّة ثابتة بأنّ الكنيسة لا تتبنّى العنف، فكيف إذا وصفت الحرب بالمقدّسة، بكلام لاهوتيّ دقيق؟

الكلام اللبنانيّ المواكب لكلام تشابلن والمحرّض عليه، التبس بمصدره السياسيّ، وتميّز التحريض بمحاولة "الحرتقة" على سوريا وعلى المعارك الجارية فيها. طبعًا إنّ نتائجها بالشكل الظاهر محدودة جدًّا بل معدومة، "كجدول لا ماء فيه" لكن بمجرّد أن تظهر تصريحات مثل تلك فإنها تجوّف المعنى والهدف بكليّته وتسوّق للاهوت استسلاميّ انبطاحيّ، خطير في الشكل والمضمون، وله أن يستمر ولفترات طويلة ثابتًا في أذهان الناس، وقد أدّى ويؤدّي بهم غير مرّة إلى الاستسلام ومن ثمّ الهجرة أو بيع ما يملكون في القرى والمدن التي هم فيها. إنّ بعضًا من نتائج حرب الجبل وبعد ​الحرب اللبنانية​ بصورة عامّة انتهى إلى تغيير ديمغرافيّ خطير أثّر في البنية اللبنانية. خطورة اللاهوت الانبطاحيّ والاستسلاميّ أنّه يمنع المواجهة تحت ستار اللاعنف، فيما المواجهة مع قوى من هذا النوع تستحقّ التشريع على كلّ المستويات. فهي من خطفت المطرانين يوحنا إبراهيم و​بولس يازجي​ اللذين انتسيا بصورة شبه كاملة من أيّ حراك هادف لمعرفة مصيرهما ومن ثمّ إطلاقهما. الفكر الاستسلاميّ يبقى في الحقيقة مصدر نسيانهما.

في النهاية الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، بأحبارها الملتئمين في مجمعهم المقدّس، لا تزال في كل تفاصيل موجوديتها ومعاييرها خارج سياق الرؤية التكوينيّة في المشرق العربيّ، خارج هذا العالم بكلّ ما للكلمة من معنى. والخطورة أن يبلغ المشرق العربيّ "اللحظة التكوينيّة الجديدة"، والكنيسة الأرثوذكسيّة مع الكنائس الأخرى لا تزال رازحة في ماضويّتها، تستلذّها وتستكين إليها، مكتفية ببيانات إنشائيّة تقف عند حدود التمنيّات السطحيّة. الكنيسة الأرثوذكسيّة عليها أن تكون في قلب الحدث تواكب الدخول الروسيّ في سوريا، تستوعبه، تمتصّه وتتفاعل معه في منطق الحرب على الإرهاب كواجب شريف ومقدّس، وبدلاً من التلهي بخلافات داخليّة فلتسمّ الأمور بأسمائها ولتعمل على توضيح الرؤى.

ان الحرب على الإرهاب سواء خاضها الروس أو آخرون واجب مقدّس وأخلاقيّ، ونحن بحاجة إليها في جدّيتها وصدقيتها ليولد من رحمها العالم الجديد القائم على العدل والعقل، في توازن مطلق بين مكونات المشرق العربيّ. والكنيسة الأرثوذكسيّة كما معظم الكنائس الأخرى معنية بها، في القلب والفكر والإرادة الطيبة.