مع اشتداد حدة المعارك في سوريا عقب التدخل العسكري الروسي المباشر، وشمولها جبهات كانت راكدة في السنوات الماضية، تنادت مختلف الأطراف الدولية للإجتماع في فيينا، في محاولة ايجاد حل للأزمة بالسياسة بعد أن اصبح واضحاً أنّ التدخل الروسي، وإن لم ينجح في حسم الوضع لصالح حليفه النظام السوري، إلا أنّه بلا شكّ لن يسمح بانهيار النظام، ويمكنه الحفاظ على حال المراوحة هذه، مراهنا على عدم قدرة باقي الأطراف على الصمود أكثر، خاصة مع تصاعد المخاطر على المنطقة وعلى اوروبا بشكل مباشر، وقد اضيف الى التهديدات الإرهابية، تهديدٌ لا يقل خطورة عنه، وهو الهجرة العشوائية الى اوروبا التي لم تستفق بعد من ازماتها المالية وخطر الإفلاس المتدحرج الذي يهدد بعض دول الإتحاد.

انتهى اجتماع فيينا دون تسجيل خرق اساسي في السقوف العالية التي وضعت من قبل اعداء النظام السوري، إذ انه بعد سلسلة مواقف اميركية واوروبية ومصرية وآخرها تركية تخلت بدرجات متفاوتة عن مطلب تنحي الرئيس السوري بشار الاسد، بقي الموقف السعودي متشبثاً بعناد بهذا المطلب.

في القراءة السياسية، لا يمكن فهم اختلاف الموقفين الاميركي والسعودي الا على أنّه توزيعٌ للأدوار، وهذا واضح لكل من يدرك طبيعة علاقة الولايات المتحدة بالسعودية. لكنّ مطلب تنحّي الأسد يبدو غريباً بعد 4 سنوات على الأزمة، فهي بدأت -للتذكير فقط– كامتدادٍ لـ"لربيع العربي" الذي كان شعارُهُ إسقاط النظام وليس فقط اشخاص الرؤساء.

صحيح ان الحاكم الديكتاتور عادة يمثل رأس النظام، ولكن النظام اثبت ان لديه القدرة على تغيير الأشخاص والحفاظ على نفسه، كما جرى في النموذج المصري، والتونسي الى حد ما. فالفاسدون المستفيدون من النظام اصبحوا مجتمعين أقوى منه، وحتى لو اراد الرئيس السير في عملية اصلاح سيكون مآلها الفشل لأن المشكلة في الأدوات التنفيذية، هذا ما آلت إليه عملية الإصلاح الطموحة التي سار بها ​بشار الأسد​ قبل ان يكتشف الحقيقة المرة. وما جرى في لبنان مؤخرًا، وما حصل مع الحراك المدني، يُظهِر بوضوح صعوبة الإصلاح في نظام فاسد مطلوب منه أن يقضي على ذاته.

بالعودة الى مطلب رحيل الأسد، يتناقض هذا المطلب مع عدة امور واقعية:

1- عدم وجود بديل مقنع للشعب السوري، وقوي بما فيه الكفاية ليتصدى لتفاقم الشعور المناطقي والطائفي المستجد، والنموذج الليبي خير دليلٍ على ذلك، لأن الأنظمة القائمة على حكم الحزب الواحد أو الشخص الواحد يصعب أن تجد فيها الشخصية الرقم اثنين، وهذا ما نراه واضحاً أكثر في حالة الأحزاب حين تطغى شخصية الزعيم المؤسس، ولا تسمح ببروز أحد آخر، فتقع الإنشقاقات بعد وفاته، فمن هي الشخصية التي تحظى بإجماع المعارضة السورية لتنافس الأسد في اي انتخابات مقبلة؟ اليس لهذا الواقع علاقة برفض اعداء النظام لاشتراك الأسد في اي انتخابات مقبلة رغم ادعائهم ان اكثرية الشعب ضده؟

2- تناقض الطلب مع ما ورد في بيان فيينا عن شرط علمانية الدولة المتوخاة، فالاسد هو العلماني الاول في سوريا، وإن لم تكن هذه مكرمة خاصة لديه، فهو ابن مدرسة ​حافظ الأسد​ الذي لم يعرف عنه يوماً أي نبرة أو تفرقة طائفية أو مذهبية، وبدوره الأسد الأب هو ابن مدرسة البعث، التي بغض النظر عن الوقع السيء لهذه اللفظة لدى الكثيرين، فإن مبادئ حزب البعث علمانية خالصة، لا تهتم بدين الشخص أو مذهبه. ولم يكن ممكناً التعرف على دين أي مسؤول سوري، ما لم يدل عليه اسمه بوضوح، كما حصل عند وفاة وزير الدفاع السابق داوود راجحة ، فعرف المتابعون انه مسيحي فقط عندما تم تشييعه في كنيسة. هل يمكن ان يحلم المسيحيون بهذا المنصب في سوريا جديدة خالية من البعث؟

لقد حافظ بشار على مبادئه في عز الأزمة، ورفض عروضاً للتخلي عن الحزب الحاكم، حزب البعث، وتركه يغرق كما حصل في العراق، او كما حصل للأحزاب الحاكمة في تونس ومصر. والمسألة ليست عناداً شخصياً، أو صموداً حتى الرمق الأخير، بل إن مسألة بقاء سوريا الموحدة مرتبطة جذريا ببقاء حزب البعث في المرحلة الحالية، لأن التجارب تعلمنا أن المجتمعات العربية القبلية، ستعود الى وحشيتها المكتسبة من الواقع التاريخي للمنطقة، وستحاول الحصول على السلطة والنفوذ عند انهيار النظام المانع.

3- أظهر بشار الأسد بالممارسة الفعلية أنه غير طائفي وغير مذهبي بالفطرة ولا حاجة له للتصنع، بينما سقط في الامتحان اصدقاء طفولته المقرّبون اولاد وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس صديق والده الحميم، مع انهم تلقوا التربية العقائدية نفسها.

4- لو فرضنا أنّ الأسد قبل بالتنحي، فمن يضمن عدم انتقام السلطة الجديدة من الأقليات الدينية ومنها العلويين؟ هل تمكنت اميركا ومعسكرها الغربي والدولة العراقية من حماية مسيحيي العراق من جيرانهم السنّة؟

5- شدد بيان فيينا في اول بنوده على وحدة سوريا، فمن يضمن هذه الوحدة عملياً؟ في العراق اليوم تشديد من كافة الدول المعنية على وحدة الأراضي العراقية، ولكن اين هذه الوحدة على الأرض؟ المناطق الكردية مستقلة بنسبة 99% عن بغداد، والمناطق السنية متمردة على الدولة وشبه مستقلة.

لا تقتصر عقيدة آل الأسد على الإصرار على وحدة سوريا، فهذا الموضوع خارج البحث عندهم، بل ما زالوا يحلمون بالوحدة العربية الكبرى، ويصرون على تسمية جيشهم باسم "الجيش العربي السوري"، فالعروبة عندهم اولى من القطرية. كما ان الرئيس الراحل حافظ الاسد وبقرار شخصي قرر سنة 1980 اعادة اعتماد علم الوحدة بين سوريا ومصر (وهو العلم الحالي) كعلم جديد لسوريا، ولكن هذه العقيدة الى اين مآلها بعد كل الذي حصل في سوريا؟ هل مطالبة اعداء النظام بتنحي الاسد شخصياً نابع من ادراكهم ان احدا غيره لن يقاتل في سبيل وحدة سوريا كما يفعل بشار؟

لقد جرى التركيز منذ سنة على الأقل على ان الاسد لديه خطة سرية باعادة اعلان الدولة العلوية في الساحل السوري، وهو تضليل اعلامي هدفه الترويج لما يرغبون بحدوثه.

إن حجم الانقسام الطائفي والمذهبي في سوريا قد يفرض واقعاً لا مفر منه، فالدولة العلوية ليست حلما او فكرة كحال الدولة الكردية مثلاً، بل ان الدولة هذه كانت موجودة فعليا تحت الرعاية الفرنسية لمدة 13 سنة من سنة 1923 حتى سنة 1936 وعاصمتها اللاذقية، حين انقسم العلويون فريقين احدهما يرفض الانضمام الى سوريا ويتشبث بالوجود الفرنسي وسمي بالفريق الاستقلالي، وفريق مشبع بفكرة القومية العربية وعلى رأسه الشيخ صالح العلي وسمي بالفريق الوحدوي ويرغب في الاندماج مع سوريا الداخلية ، فكانت الغلبة للفريق الثاني.

ومن سخرية القدر ان من اهم شخصيات الفريق الإستقلالي كان سليمان الاسد جد الرئيس بشار.

فهل يردد في قبره اليوم: ألم اقل لكم؟