لا يختلف اثنان على أنّ تضامن ​لبنان​ الرسمي والحزبي والشعبي مع ​القدس​ في مواجهة إعلانها الأحادي من قبل الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ عاصمةً ل​إسرائيل​ لم يكن من الأكثر فاعلية في المنطقة فحسب، بل قد يكون تفوّق في مكانٍ ما على تضامن ال​فلسطين​يين أنفسهم مع أنفسهم. وقد استطاع اللبنانيون، سواء من خلال المواقف الرسمية التي أطلقها قادتهم، أو من خلال التحركات الشعبية التي نظّمتها أحزابٌ وفئاتٌ متنوّعة، ولو خرج بعضها عن السيطرة، أن يثبتوا إيمانهم بالقضية وتمسّكهم بالثوابت، مهما كان الثمن.

وإذا كان اقتراح وزير الخارجية ​جبران باسيل​ بفتح سفارة لبنانية في القدس، والذي ناقشه مجلس الوزراء في جلسته العمليّة الأولى بعد عودة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ عن استقالته، قبل إحالته للجنة وزاريّة فرعيّة، يندرج بلا شكّ في سياق خطوات "حسن النيّة" اللبنانية، فإنّ علامات استفهام كثيرة طُرِحت ولا تزال عن مدى إمكانيّة تطبيقه، في ظلّ قناعةٍ راسخةٍ لدى كثيرين بأنّ الاقتراح رمزيّ، إلا أنّه قد لا يكون واقعيًّا لاعتباراتٍ كثيرة...

رسالة قوية...

بغضّ النظر عن الترجمة العملية لاقتراح وزير الخارجية إنشاء سفارة لبنانية في القدس، في ظلّ تأكيده جدّيته مقابل التشكيك بذلك من قبل عددٍ من حلفائه وخصومه، فإنّ ما لا شكّ فيه هو أنّ لهذا الاقتراح قوة معنوية جوهرية لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها. وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ اقتراح باسيل يؤكد على الموقف اللبناني والعربي المبدئيّ من القدس، في ظلّ موجة الصمت التي اجتاحت المنطقة بعد قرار الرئيس الأميركي، الذي لم يحتج لأكثر من يومين حتى ينساه الكثيرون، من أصحاب مقولة القضية المركزية العربية.

من هنا، فإنّ مثل هذا الموقف اللبناني يحمل من الرمزية ما يحمل في زمنٍ لم يعد أحدٌ يعرف أين أصبحت فيه البوصلة لكثرة ما انحرفت عن مسارها، بل أضاعته، ولذلك فإنّ اقتراح باسيل، من حيث الشكل أولاً، يُعتبَر رسالة قوية تعبّر عن التضامن اللبناني الكامل مع ​القضية الفلسطينية​، وخصوصًا قضية القدس، التي يفترض أن تكون جامعة، في وجه كلّ المحاولات المبذولة هنا وهناك لتسخيفها وصولاً إلى بيعها في المزاد العلني إذا صحّ التعبير. كما أنّ أهمية الرسالة تكمن في أنّها تأتي على شكل تحدٍ ليس فقط للدول العربية والإسلاميّة التي لم تحرّك ساكناً إزاء قضية بهذا الحجم وبهذه الخطورة، بل لأنّها تعبّر في مكانٍ ما أيضًا عن مواجهةٍ مباشرةٍ لقرارٍ صادر عن الادارة الأميركية، التي تُعتبر الآمر الناهي في الخريطة العالمية اليوم.

ولعلّ أهمية الموقف اللبناني، المعبَّر عنه باقتراح باسيل الجديد، تتضاعف كونه يأتي معطوفاً على سلسلة من التحركات الرسمية والشعبية والحزبية التي تأتي كلّها في سياقٍ واحدٍ وهو إبقاء القضية حيّة وعدم السكوت على القرار الأميركي، الذي يمكن أن تكون له تداعياته الكارثية ليس فقط على القضية الفلسطينية بحدّ ذاتها بل على مستقبل السلام في منطقة الشرق الأوسط ككلّ. ولا شكّ أنّ التناغم اللافت الذي سُجّل حول موضوع القدس بين كلّ القيادات من رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​، الذي ذهب البعض لحدّ وصفه بـ"الامام"، إلى رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ ووزير الخارجية جبران باسيل، مروراً بالقادة الروحيين الذين عبّروا عن موقفٍ واضحٍ في هذا الصدد خلال ​القمة الإسلامية​ المسيحية التي عقدت في بكركي يأتي ليعزّز قيمة الموقف التضامني اللبناني، وإمكانية استخدامه للضغط بشكلٍ أو بآخر.

معوّقاتٌ لوجستيّة...

انطلاقاً من كلّ ما سبق، يبدو اقتراح وزير الخارجية، الذي ناقشه مجلس الوزراء، بمثابة خطوةٍ رمزيّة، معبّرة من دون شكّ، وقوية في معانيها ودلالاتها. ولكن، أبعد من ذلك، هل من ترجمة عمليّة وواقعيّة ممكنة لهذا الاقتراح؟ وأيّ آلياتٍ يمكن اعتمادها على هذا الصعيد؟.

الأكيد أنّه، وعلى الرغم من أنّ باسيل استند في اقتراحه إلى قرارٍ صدر عن الحكومة اللبنانية في 27 تشرين الثاني 2008 بانشاء علاقات دبلوماسية مع دولة فلسطين، على أن "يحدد المجلس تاريخ بدء الاجراءات التنفيذية"، إلا أنّ كلّ المعطيات تشير إلى أنّ الاقتراح، على أهميته، يبقى صعب المنال في ظلّ ​الاحتلال الاسرائيلي​ للقدس، ليس فقط لرفض العديد من المكوّنات الحكومية تجزئتها بين شرقية وغربية، ولو أتى ذلك في نصّ المبادرة العربية للسلام التي أطلقت من ​بيروت​، ولكن قبل ذلك نظراً للمعوقات اللوجستية، والتي لا تبدو قليلة، أو يمكن الاستهانة بها.

ومن هذه المعوّقات كيفية إنشاء السفارة ووصول طاقمها إلى القدس من دون التعامل المباشر مع السلطات الاسرائيلية التي تُخضِع القدس بكاملها ومن دون أيّ تجزئة لسيطرتها التامة، ما سيشكّل اعترافاً ولو بشكل غير مباشر بإسرائيل، وهو ما يعرفه القاصي والداني، في حين أنّ لبنان في حالة حرب معها، وهو ما لا يبدو موضع جدل أو نقاش من قريب أو من بعيد. وإذا كان البعض حاول "ابتكار" وسائل تطبيقية للقرار، على طريقة أنّ السفير الذي سيُعيَّن يمكن أن يمارس عمله من خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو أنّ "استثناءً" يمكن أن يُمنَح له انطلاقاً من صفته الدبلوماسية للسماح له بممارسة علمه بالشكل الذي يجده مناسباً، فإنّ كلّ هذه الأفكار لا تنفي أنّ مجرّد إنشاء السفارة على أراضٍ خاضعةٍ للسيطرة الاسرائيلية، ولو حصل ذلك بموافقة ومباركة فلسطينية علنية أو ضمنية، يشكّل مخالفة صريحة، والأخطر أنّه يشكّل اعترافاً بإسرائيل، ما قد يفضي إلى إبطال حالة الحرب معها.

الهدف استُنفِد...

برأي كثيرين، فإنّ مجرّد إحالة اقتراح وزير الخارجية جبران باسيل إلى لجنة وزارية لدرسه يعني وجود نيّة بسحبه من التداول بطريقةٍ أو بأخرى، خصوصًا بعد النقاشات التي حصلت داخل مجلس الوزراء، وانطلاقاً من ​القاعدة​ القائلة بأنّ "اللجان مقبرة المشاريع"، وهي قاعدةٌ أثبتت جدواها أكثر من مرّة في لبنان.

إلا أنّ هناك من يعتقد أنّ الهدف من الاقتراح قد استُنفِد أصلاً، وأثبت مرّة أخرى أنّ لبنان، على عجزه قادرٌ على أن يجترح خطواتٍ بالحدّ الأدنى من الإمكانية التي لديه، والمطلوب من الدول العربية والإسلامية أن تحذو حذوه، خصوصًا أنّ بين أيديها أسلحة قادرة على إحداث التوازن، بعيدًا عن إنشاء سفارة قد تكون فائدتها المعنوية أكبر من أيّ شيءٍ آخر...