في 15 آب من كل سنة، تحتفل الكنيسة بعيد إنتقال السيدة العذراء إلى السماء، فتتألق معظم القرى والبلدات اللبنانية بأجمل زينة وتقام المهرجانات في مختلف أنحاء البلاد... فبين السيدة العذراء واللبنانيين بمختلف أطيافهم علاقة مميزة تتجلى في المزارات العديدة التي شيدت على اسمها وفي تكريمها بطرق عدّة. وهي، الملقبة بـ"أرزة لبنان"، كانت تنتظر إبنها الذي كان يدخل إلى نواحي صور وصيدا للتبشير بملكوت السماوات في مغدوشة والقرى المجاورة... فقدميها المقدستين وطأتا هذه الأرض وقدستاها... ولم تبخل يوماً بتحقيق نوايا من يلجأ إلى شفاعتها. ومن أبرز علامات تجلّي شفاعة مريم العذراء تشهد لها كنيسة "سيدة الزلزلة" العجائبية في زحلة.

السيدة توقف الزلزال!

حدث زلزالٌ قويٌّ في العام 1759، غرقت مدينة بيروت على أثره وتضرّرت مدينة بعلبك الّتي كان ما يزال معبدها قائمًا بأعمدته كاملةً مع الهيكل حتّى ذلك الحين. يُذكر أنّ شكلها الحالي صار عليه بعد الزلزال. أما زحلة فكانت بلدةً صغيرةً وكنيسة السّيِّدة كانت أعلى بناءٍ فيها. فلما وقعت الزلزلة تشقّقت الأرض خلف الكنيسة وزحلتِ التربةُ باتجاه الكنيسة، ولمّا تتوقّف إلا بأعجوبة بعدما صطدمت بالكنيسة وطمرت جزءًا من حائطها الغربي. إذ ذاك توقّفتِ الهزّاتُ الأرضية وسلِمت كلّ المنازل من تأثير الزلزال، وأيقن أبناء زحلة أنّ كنيسة السّيّدة حمتهم منه وأوقفتْه، فتوافدوا إليها شاكرين العذراء على حمايتها لهم.

وأثناء توسيع الكنيسة من الجهة الغربية عام 2003، تبيّن، أثناء أعمال إزالة الأتربة، أنّ الحجارة دون أرضية الكنيسة مصقولة وهي مشابهة للحجارة الّتي فوقها، ما يدلّ على أنّ هذه النّاحية لم تُبنَ لكي تُطمَر بل جرى ذلك إثر الزلزال.

كما يوجد عمود، واضح للعين المجردة، زَحَل أساسُه حوالي سّبعة سنتمترات من ضغط الزلزال، من الناحية الشمالية للكنيسة.

ومنذ تلك الحادثة أطلق المؤمنون على الكنيسة سم ”كنيسة سيّدة الزلزلة العجائبيّة“. كلّ البيوت المحيطة بها بقيت سالمة، ولا أثر للزلزال فيها. كما عتُبرت الكنيسة ملجأ لكلّ متألّم لا فقط بين الأرثوذكس بل بين الكاثوليك والموارنة أيضًا، فيما بعد.

الحماية على مرّ التاريخ

في حوادث العام 1860 حتشد مقاتلون أتراك، في محيط مدينة زحلة، لمهاجمتها ودخلوا إليها بالحيلة وأحرقوها. احتمى عددٌ من أبنائها في كنيسة الزلزلة لإيمانهم أنّها ستردع الأعداء وتحمي من يلوذ بها. وعندما وصلت فرقةٌ من المهاجمين إلى باحة الكنيسة وهمّت بالدخول إليها لقتل مَن فيها ونَهْبِ تحفها وحرقها، كانت العذراء مريم لهم بالمرصاد إذ ذرّت الغبارَ في عيونهم، مُحدِثةً سياجًا حول كنيستها حال دون اقتراب الأعداء منها، بحسب ما يتناقله أبناء زحلة، مشيرين إلى أنه "هكذا سلِمت الكنيسة من الحريق، وسَلِم كلّ من التجأ إليها".

يُذكر في هذا السّياق، أنّه أثناء ترميم الكنيسة، عام 2003، لم يظهر أي أثر للحريق على حجارة الكنيسة، لأنّ الحجر إذا تعرّض للحريق اسْوَدّ لونه وتفتت. والحجر الحالي أصفر اللون مثله مثل الحجر الطبيعي.

ومن جهة أخرى، نذكر أنّ الفرنجة تدخّلوا بعد ثورة 1860 وأُعطِيَ المسحيّون في زحلة بعضًا من الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية. فكانت زحلة هي المدينة الوحيدة الّتي تدقّ أجراسها أثناء الحكم العثماني. كذلك صدرت، يومذاك، جريدة "زحلة الفتاة" الّتي كانت تكتب مقالات ضد الحكم العثماني.

ثم في العام 1914، إبّان الحرب العالمية الأولى، دخل جنودٌ من الأتراك إلى المدينة لينتقموا. وقد لاحقوا صحافيي جريدة "زحلة الفتاة" وشرعوا بإنزال أجراس الكنائس. وعندما وصلت فرقةٌ منهم إلى كنيسة سيّدة الزلزلة صعِدَ إلى قُبّة جرسها إثنان من الجنود حاولا إنزال الجرس فوقعا إلى أسفل دون أن يعرف أحد كيف. ولمّا رأت سيّدة من الرّعية ما حصل للجنديّين تشجّعت واقتربت من رئيس الفرقة وقالت له: "إنّ العذراء ستمنعُكم من إنزال جرسها". فاستشاط غيظًا وحنقًا وحمل فأسه ودخل الكنيسة عازمًا أن يحطّم أيقونة العذراء. لكنّه وقع أمام إيقونة الرقاد العجائبية، لا حول له ولا قوّة، فخاف الجنود الباقون ممّا حصل وأخذوا قتلاهم وجرحاهم وولّوا الأدبار، ويعيد أهل المدينة هذا الأمر لشفاعة العذراء، بحسب ما روى المرحوم اسكندر الطباع (مواليد 1902) في مقابلة شخصية أجراها معه كاهن الرعية الحالي الأب جورج معلوف عام 1998.

...من كل حدّ وصوب

إن سلسلة العجائب العديدة والكثيرة لسيدة الزلزلة جعلت الكثير من المؤمنين يؤمون الكنيسة من كل حد وصوب خاصة في يوم عيدها الموافق في 15 آب عيد انتقال السيدة العذراء فتغص الكنيسة على مدار ثلاثة أيام واكثر بحشود من مختلف المناطق اللبنانية والعربية وحتى الدولية فيتباركون منها ويقدموا النذورات لها متضرعين خاشعين مما يجعل منها محجة للتبارك.

وتقع كنيسة سيّدة الزلزلة العجائبيّة في الجهة الجنوبيّة الشرقيّة من مدينة زحلة حيث نشأ أقدم حيٍّ من أحياء المدينة، وعلى بُعد مئةٍ وخمسين مترًا منها، ويقام فيها القدّاس الإلهي، كلّ أسبوع، في الكنيسة، يومَي الأحد صباحًا والخميس مساءً.

أما تاريخ بناء هذه الكنيسة فهو غير محدد، ولكن بعض الدلالات تُشير إلى احتمال بنائها في النّصف الثاني من القرن السّادس عشر أو، كحدٍّ أقصى، في آخره. المؤرِّخ عيسى سكندر المعلوف يقول عنها إنّها أوّل كنيسةٍ بُنيت في زحلة، وهذا شائعٌ في ذاكرة أبناء المدينة. ويقول أيضًا إنّ بعض العائلات الأرثوذكسية القديمة في المنطقة سكنَتْ زحلةَ في القرنِ السّابع عشر. من هذه العائلات عائلة "الحاج شاهين" الّتي أتَت مع السّلطان سليم الفاتح فأقطعها أرض عرْجموش في منطقة حوش الأمراء العقاريّة حاليًا، وذلك سنة 1517. نتقلت عائلة "الحاج شاهين" إلى زحلة إثر خلاف بينها وبين السيّاد في برالياس. هذا ويوردُ عيسى سكندر المعلوف أنّ حوالي الثلاثين الألف مقاتل حطّوا رحالهم في أرض عَرْجَموش في العام 1584. هذا يفترض أنّه لم تكن عائلة "الحاج شاهين" ساكنةً في أرض عَرْجَموش في ذلك الوقتِ. على هذا يكون الوجود الأرثوذكسيّ في زحلة قابلاً للردّ إلى القرن السّادس عشر، وعلى الأكثر إلى بدايات السّابع عشر. وهذا يتضمّن أنّ الرّعيل الأوّل من الأرثوذكس يكون قد بنى كنيسة في ذلك الحين.

يشار إلى أنّ العثمانيين، يومذاك، كانوا يُحَوِّلون الكنائس إلى جوامع. لذا كان من الصّعب على أحد أن يُشَيِّد كنيسة في ظل حكمهم. فإذا كان "آل النّصراني"، الّذين صاروا "آل الحاج شاهين" لاحقًا، قد تمكنوا من بناء كنيستهم فلأنهم كانوا يحملون براءةً من السّلطان سليم الأوّل تقديرًا لهم. وهكذا، فيما يُظن، بُنيت كنيسة سيدة الزلزلة العجائبية في زحلة وقامت العائلة بتشييد مساكن لها حول الكنيسة.

ومن أهمّ العلامات البارزة في الكنيسة الدّالة على أنّ هناك قدرة إلهية جعلت هذه الكنيسة ثابتة في موقعها رغم الضعف الهندسيّ في بنائها ما يلي: أولاً، غياب أيّ أساس صخريّ لجدران الكنيسة. المعروف أنّ أرض الكنيسة هي من التراب المعروف بـ"الكدّان"، مما يزحل في المدينة. وثانياً، حجرُ أساسِ أحد الأعمدة الأربعة كان من ضمن بلاط الكنيسة، حيث إنّ أرضيّتها، كانت، قديمًا مرصوفةً بالحجر الصّخريّ. وعندما جُدِّد بلاط الكنيسة، في بدايات القرن العشرين، مع الإيقونسطاس، جرَتْ عمليّةُ تكسيرٍ لهذه القاعدة لكي يحلّ محلّها الرخام. لذا لم يعُدْ ثمة أساسٌ للعمود. رغم ذلك بقي ثابتًا ولم يتزعْزع. الجدير بالذكر أنّ هذا العمود تأثّر بالزلزال الّذي حصل عام 1759، إذ حاد عن موقعه حوالي الخمس السنتيمترات.

الأيقونوغرافيا المميزة

ككل كنائس الطقس البيزنطي، تتميز هذه الكنيسة بالإيقونوغرافيا المميزة، ومن بينها أيقونة المزار "العذراء الدامعة". ولعل هذه الأيقونة هي من أقدم أيقونات الكنيسة من حيث رسمها وزخرفتها. قبل ترميمها لم يكن ظاهرًا منها إلاّ وجه العذراء، ولكن بعد ترميمها، سنة 2005، وإزالة السّواد الّذي سبّبته الشموع المضاءة مقابلها، بان قدّيسون يحيطون بوالدة الإله الحاملة السّيّد على ذراعها.

يُحكى عن الأيقونة، أنّ سيّدة كانت تصلّي بحرارةٍ أمامها في المزار، عند مدخل الكنيسة، فاستجابَتِ والدة الإله لتضرّعِ هذه السّيّدة. وقد أعطتِ الأيقونة علامةً على ذلك بأنْ تحرّكتِ الدمعة في عين العذراء. كتب هذه الحادثة الأستاذ جان أبو حمرا آنذاك في جريدة ”زحلة الفتاة“، في 31 أيار من العام 1954. وعندما رُمِّمَت الأيقونة، أكّد المختصّ بترميم الأيقونات أنّ الدمعة على الأيقونة ليست من أيِّ نوعٍ من الألوان وأنّها لم تُكْتَب مع الأيقونة، ما يرجّح صحّة الحادثة المرويّة.

وإلى جانب هذه الأيقونة أيضاً، أيقونة الرقاد العجائبية التي رسمها عام 1881 ميخائيل مهنّى القدسي. وهي أيقونة كبيرة عرضها حوالي 90 سنتمترًا. سنة 1971 أو 1972، ٱحترق قسم من هذه الأيقونة بسبب الشموع الّتي كانت تضاء مقابلها. فأخذها القيّمون على الكنيسة، وعلى قدر معرفتهم أعطوها لأحدهم ليرممها. هذا الأخير قطع القسم العلوي منها وهو القسم المحروق بالإضافة إلى أحد جوانبها. فلم يبقَ ظاهرًا فيها إلا جسد العذراء المسجّى وقسم من الرّسل والجزء السّفلي من السّيّد. وهي أيقونة عجائبية. تُنسب إليها عجائب عدة يتناقل خبرها النّاس. ونورد هنا عجيبة حصلت لسيّدة قامت بسرد خبرها للأب جورج معلوف (الكاهن الحالي) فيما بعد. فذات يوم في شهر كانون الأوّل، كان الأب جورج يستقبل مجموعة من الشبّان في الكنيسة ويشرح لهم تاريخها، فدخلت سيّدة مسنّة مع ٱبنها وأولاده. جلست على أحد مقاعد الكنيسة وأخذت تُصغي إلى ما يقول. وبعد أن أنهى الكاهن كلامه، طلبت السّيّدة منه قائلةً إنّ عندها ما تقوله له. قالت: "تزوجتُ وأنا شابة ولم أستطع الإنجاب. وبعد فترة أُصبتُ بمرضٍ، صَعُب عليّ، على أثره، السير فأصبحت شبه مشلولة. أتى إلي أحد أبناء قريتي وأشار عليّ بأن أقدّم نذرًا لسيّدة الزلزال في زحلة وهي قادرة أن تتشفع لي لنيل الشفاء. أتى بي زوجي إلى الكنيسة محمّلة. صلَيْتُ على قدر طاقتي ومعرفتي، وبعد ربع ساعة تقريبًا أحسست بقوة في جسدي، فانتصبت ومشيت. وأعطاني الله بعد ذلك أولادًا، وأنا، كلّ سنة، في شهر كانون الأول أزور الكنيسة لأشكر والدة الإله على صنيعها معي".

وهكذا على مرّ العصور، تستمر العذراء بإظهار أمومتها لكل من يلتجئ إلى حمايتها ويطلب منها. وما زالت "عروس البقاع" تسمع أصوات أجراس سيدة الزلزلة تقرع عالياً وعالياً!