هو خيط رفيع يفصل بين "الثورة" و"المؤامرة" في زمن الغرائب والعجائب الذي نعيشه هذه الأيام، خيطٌ تسقط معه كلّ "المبادئ" و"الثوابت" في مستنقع "الازدواجية الفاقعة"..

هكذا، يتحوّل البعض من "أشرس" المنادين بحقوق الإنسان في بقعةٍ معيّنةٍ ومن أشدّ "الساخرين" من نظريّة "المؤامرة" التي يلجأ إليها البعض الآخر، إلى أول "متبنّي" هذه النظرية في موقعٍ آخر دون أن يتردّدوا ولو لبرهةٍ، وذلك انطلاقًا من حساباتٍ سياسية، بل طائفية ومذهبية في معظم الأحيان للأسف الشديد..

متأصّلة منذ الأزل..

ليس الحديث عن "الازدواجية" جديدًا، فهو متأصّل في السياسة منذ الأزل، بل يكاد يكون شرطًا أساسيًا يتحكّم بـ"لعبة الأمم"..

فبـ"المعايير المتقلّبة"، حكم المجتمع الدولي العالم، هو الذي ينادي تارة بالانتخابات الديمقراطية ثمّ ينبذها إذا لم تأتِ لصالحه ولصالح طموحاته وأطماعه، وهو الذي يرفض كلّ أشكال العنف ويسكت عن جرائم ومجازر لا تخفى على أحد، وهو أيضًا الذي يهدّد ويتوعّد بالفصل السابع وعظائم الأمور إذا لم تُطبَّق قراراته ويصمت أمام تجاهل البعض لهذه القرارات، والتعامل معها وكأنّها لم تكن..

ومع ظهور موجة ما يُسمّى بـ"الربيع العربي"، توسّعت هذه الازدواجية أكثر، لتتخذ مناحي وأشكالاً جديدة، فكان أول من هلّلوا لهذه "الثورات" في كلّ من مصر وتونس وحتى ليبيا أول من "نبذوها" عندما دقّت أبواباً أخرى كسوريا، وفي المقابل فإنّ من ركبوا الموجة "مُكرَهين" في تونس ومصر باتوا من أشدّ المؤيّدين لها في سوريا، ولم يغيّروا هذا الموقف مع بروز نجم التنظيمات الأصولية المتطرّفة ولا مع تحوّل الأرض السورية لساحة حربٍ حقيقية أو كما يلقّبها البعض "ساحة جهاد" تتنازع التنظيمات الإرهابية على السيطرة عليها..

أكثر من ذلك، فإنّ المفارقة، التي لم تعد بغريبة، هي أنّ هؤلاء أنفسهم هم من يرفضون الحديث عن "ثورةٍ" في أماكن أخرى، ومنها على سبيل المثال البحرين بدرجةٍ أولى، ولو كان شعارها "السلمية"، والمملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج بدرجةٍ أقلّ..

ازدواجية تجاه "داعش"!

ولعلّ تعاطي البعض مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والمعروف اختصارًا بـ"داعش" يعطي مثالاً صارخاً عن المعايير المتقلّبة التي يعتمدها البعض..

فإذا كان الجدل لا يزال قائمًا حول ظروف بروز ونشأة هذا التنظيم بين من يتهمه بأنه "صنيعة" المخابرات الغربية، ويستند في ذلك إلى تصريحاتٍ ينسبها إلى وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، ومن يقول في المقابل أنّ النظام السوري هو الذي أخرجه إلى العَلَن لتشويه "الثورة" في سوريا، فإنّ الأكيد أنّ تقييمه خضع بدوره لـ"الازدواجية" بصورة جليّةٍ لحدّ الوقاحة.

هكذا، من سوريا إلى العراق، تغاضى كثيرون عن ماهية هذا التنظيم المسلح الذي يتبنّى أفكارًا متشدّدة يفترض أن يُجمِع العالم بأسره على مواجهتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر إعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، منع ترميم أو إعمار كنائس المسيحيين المهدّمة وعدم الجهر بصلواتهم والاكتفاء بأداء شعائرهم بصمتٍ داخل الكنيسة، قتال غير المسلمين وغزو العالم لنشر الدعوة، وما إلى ذلك من أدبيات الخطاب الداعشي.

رغم كلّ ذلك، أصرّ البعض على مقاربة الأمور من زاويةٍ ضيّقة تحصر الرؤية بالحديث عن حق الشعوب بـ"الثورة" للمطالبة بالحقوق المدنية وفي مقدّمها الحرية ورفض الظلم والطغيان، وهو حق بديهي لا يمكن لأحد أن ينكره لا على شعب سوريا ولا على شعب العراق ولا على غيرهما. ولكنّ المشكلة الكبرى ظهرت عندما تجاهل هؤلاء الخطر الذي مثلته "داعش" بل ذهب البعض لحدّ اعتبارها جزءًا من "الثورة"، لا لشيء إلا لأنّ هذه "الثورة" تخدمهم، فتغاضى عن أفعالها وجرائمها وفظائعها.

تحالف "المصالح"..

انطلاقاً من كلّ ذلك، لا يبدو "الاستنفار" الذي يشهده العالم اليوم تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" بريئًا، مع ما لهذا العنوان من معانٍ ودلالاتٍ "سوداوية"، خصوصًا في منطقتنا..

وفي هذا السياق، كان لافتاً أنّ ما يُسمّى ب​التحالف الدولي​ في وجه "داعش" لم ينشأ إلا بعد أن تجاوز التنظيم التكفيري الحدود المسموح بها دوليا على ما يبدو، وبعد اقترابه من آبار النفط في المنطقة الكردية. وبهذه الطريقة فقط، يصبح مفهومًا التسليح غير المسبوق الذي تقدّمه الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية لأكراد العراق دون غيرهم ممّن يحيط بهم الخبر، ويصبح منطقيًا اقتصار الضربات الأميركية على مناطق عراقية بعينها، وكأنّ المطلوب إضعاف "داعش" وإبعادها عن البترول فقط أو إجبارها على التراجع والعودة إلى سوريا من جديد وليس القضاء عليها.

وينسجم هذا المنطق مع "الحُجَج" التي ينطلق منها المعسكر المناهض للولايات المتحدة، والذي يعتبر أنّ "داعش" تطبّق حرفيًا السيناريو الأميركي في تفتيت الدول العربية والقضاء على جيوشها، وأنّ أميركا لم تتحرّك إلا حين تعرّضت مصالحها المباشرة في المنطقة للخطر، وخير دليلٍ على ذلك أنّ هذا "الاستنفار" استثنى دولاً محورية في المنطقة على غرار إيران وروسيا، ولو حاول البعض ربط الأمر بالعقوبات المفروضة على الأخيرة غربيًا على خلفية الأزمة الأوكرانية، دون أن ننسى سوريا التي راكمت خبرة سنوات في مقاتلة هذه التنظيمات الإرهابية، خبرة لا شكّ تتفوّق على "حساسية" البعض تجاه النظام السوري في حال كان جادًا في تقييم خطر "داعش" وإرادة مواجهته وصدّه.

"الوحش" انقلب على "معلمه"!

يصف البعض "داعش" بالوحش الذي كبر فانقلب على "معلّمه" لدرجة أفقده السيطرة عليه، أيًا كانت هوية هذا "المعلم"، ويذهب البعض الآخر لاعتباره مجرّد "أداة" تنفذ مهمّة محدّدة..

أيًا كان التقييم الحقيقي والجدي لهذا التنظيم، فالأكيد أنه كما وُلد فجأة وبـ"كبسة زر"، فإنّ القضاء عليه لن يحتاج لأكثر من "كبسة زرّ" مماثلة، ولكن متى توافرت الإرادة الحقيقية والجدية بذلك، ومتى توقف التمويل والتسهيل والتجنيد والتدريب "خلف الكواليس"..

وبالانتظار، فإنّ كلّ المؤتمرات والندوات والمحاضرات وما شابه لا تعدو كونها "عدّة الشغل" لملء "الوقت الضائع"، لعلّ المهمّة تُستكمَل حتى النهاية، على جري العادة..